السنن الإلهية (15) سنن الله في المترفين
يحرص كثير من المصلين على أداء صلاة العشاء في مسجدنا وإن لم يكن الأقرب إلى منازلهم، ذلك أن إمامنا لا يطيل الصلاة، فضلا عن حُسن تلاوته، وطيب أخلاقه. قرأ آيات من سورة الواقعة، بعد الصلاة صحبته واثنين من المصلين. - لماذا وصف الله (أصحاب الشمال) أول ما وصفهم {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} ثم قال: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} إلى آخر الآيات؟! - سؤال جميل، نعم يتساءل المرء، وهل (الترف) ذنب يستحق كل هذا العذاب؟! والجواب على ذلك في تقصي آيات الكتاب؛ حيث ورد هذا الوصف، مع الاطلاع على تفسير هذه الآيات. علق (أبو خالد). - حقيقة، سؤال مستحق؟ هل (الترف) ذنب؟ تابع شيخنا بيانه. - (الترف) لغة: التنعم، و(الترف) النعمة، و(المترف) هو الذي أبطرته النعمة وسعة العيش عن الإيمان بالله، واتباع الرسول. وهذا المعنى الأخير هو الوارد في كتاب الله، وذلك باستقصاء الآيات التي ورد فيها هذا الوصف، يقول الله -تعالى-: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء:١٦). والمعنى أن سبب هلاك الأمم أننا نرسل المرسلين فيأمرون الناس بمراد الله، فيكون أول من يعصي هذه الأوامر ويعترض عليها (المترفون)، ويتمادون بفسقهم، فيحق عليهم العذاب، فتُدمر تلك الأمة، وهذا كقوله -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام:١٢٣). وهكذا الحال في الآخرة يلوم العامة والضعفاء، السادة والكبراء: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} (غافر:٤٧). تدخل (أبو خالد) مرة ثانية: - إذًا (المترفون)، لا تعني (الأغنياء)؛ لأنه خطر في بالي أن من الصحابة من كان عظيم الثروة، ولديه من المال ما يمكن أن يوصف هذه الأيام بالثراء الفاحش. ابتسم إمامنا: - بالتأكيد كلامك صحيح، (الغني) الذي يؤدي حق ماله له مكانته عند الله -عز وجل-، ولو تذاكرنا بعض الآيات الأخرى التي تذكر المترفين. توقفنا عند مراكبنا، قررنا الاستمرار بالحديث، الكل كان مهتما لسماع بقية الشرح. تابع إمامنا: - يقول الله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (34-36). ويقول الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف:23). ويقول -تعالى-: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (المؤمنون:33). ففي هذه الآيات يبين الله -عز وجل- أن أهل (الترف) يرون أنهم مميزون عن غيرهم بكثرة المال والجاه والأولاد، فهم عِّلية أقوامهم، والنخبة في مجتمعاتهم، وإليهم يرجع الرأي، وبهم يقتدي عامة الناس، فجعلوا نعمة الله عليهم، من مال وولد، سببا لهم أن الله لن يعذبهم! بهذا (المنطق) الضيق والمحدود، ظنوا أنهم على حق، أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ:36)، ونتيجة خداعهم لأنفسهم، أعطوا الحق لأنفسهم أن يردوا دعوات الرسل، ويتبعوا ما أرادوا- في دينهم، ويفعلوا ما شاؤوا في أموالهم، وهذا حال المترفين في كل أمة، ويمكن أن نسميهم بـ(الملأ)، الذين هم علّية القوم من أصحاب النفوذ المالي والاجتماعي، وهؤلاء مصيرهم الهلاك في الدنيا قبل الآخرة؛ فإن الله يهلك المترفين والمسرفين، في سورة الأنبياء يقول الله -تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} (الأنبياء:11-15). هذه سنة الله فيمن أترفوا؛ فكان (ترفهم) سببا في رد أمر الله، فاستحقوا الهلاك، هذا قانون إلهي نافذ لا يتبدل ولا يتحول. وفي سورة هود يقول الله -تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود:116)، هذا حال (المترفين) على العموم الطغيان والظلم ورد الحق والتكبر على دعوة الرسل؛ فكان القانون الإلهي العادل في حقهم، الهلاك في الدنيا، وفي هذه السنة تحذير للمترفين إلى يوم القيامة، وتنبيه للعامة إلى يوم القيامة ألا يتبعوا المترفين؛ لأنهم لن ينفعوهم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
لاتوجد تعليقات