السنن الإلهية (٢٠) بطر العيش
منذ فترة بدأ الألم يتسلل إلى ركبتي اليسرى، دون سبب ظاهر، ولماذا اليسرى دون اليمنى؟! ازداد الألم بعد ثلاثة أشهر؛ بحيث عجزت عن ثني ركبتي في أثناء التشهد، قررت مراجعة استشاري جراحة العظام تخصص الركبتين، أُقدر أنه في منتصف الخمسينيات، من ليبيا، مكث في أوروبا عشرين سنة، ثم قرر الانتقاء إلى بلد مسلم؛ ليتمكن وأسرته من العيش في بيئة إسلامية. - هذه خشونة واضحة، ولماذا اليسرى دون اليمنى؟ لا سبب طبي أعلمه لذلك، سوف أحقنك بإبرة في الركبة، فيها علاج لفترة ربما ستة أشهر أو سنوات، طلب من الممرض إحضار الحقنة من الصيدلية، بعد أن دفعت ثمنها. - هذه البلاد في نعمة عظيمة من الله -عز وجل-، حتى بالنسبة لدول الخليج الأخرى، أشعر فيها براحة روحية، وطاقة إيمانية، مع ما فيها من رغد العيش وسعة الرزق. - الحمد لله، هذا فضل من الله، نسأله أن يديمها علينا ويزيدها ولا يسلبنا إياها. - إن الله لا يسلب نعمة على أمة دون سبب، كما قال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:٥٣). شعرت أن صاحبي لديه علم شرعي جيد، ويحفظ من القرآن والحديث ما يؤهله لذلك، أعطيته المجال أن يتابع حديثه. - هذه الآية تأتي بعد الآية التي يذكر فيها الله -عز وجل- آل فرعون، والمعنى أن سنة الله جرت أنه لا يسلب نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ذلك بأنفسهم، وأن آل فرعون والذين من قبلهم كانوا من جملة الأقوام الذين أنعم الله عليهم فتسببوا بأنفسهم في زوال النعمة، وهذا إنذار لقريش -بل ولكل أمة حتى يوم القيامة- أن يحل بهم ما حل بغيرهم! كانت ردة فعلي التلقائية: - «اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك» (صحيح الجامع). - اللهم آمين. - صدقت د. هاني، ومصداق ذلك قوله -تعالى- في سورة القصص: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (القصص:58). - أليس (بطر النعمة)، مرادف لـ(كفر النعمة)؟ - ربما البطر، أقل درجة من كفر النعمة، (البطر) أشر أهل الغفلة، قاطعني: - فسرت الماء بالماء؟ وما الأشر؟ ابتسمت ضاحكا! - قيل، الأشر أشد من البطر، يصحبه الفرح والغرور، وقيل هما كلمتان إذا اجتمعتا افترقتا في المعنى، وإذا تفرقتا اجتمعتا في المعنى، ولا فرق بين (بطر النعمة) و(كفر النعمة)؛ فبطر النعمة يفيد أنه عظمها وبغى فيها، و(كفر النعمة) عظمها، وجحد المنعم، وقيل (بطر النعمة) أساء استخدامها. انتقلنا إلى غرفة (الضماد)، استلقيت على السرير، ننتظر أن يجهز الممرض الحقنة. - ولفظ (كم)، في قوله -تعالى-: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ}، تدل على الكثرة؛ بحيث يصبح هذا الحال الغالب، لهذه المسألة، قاطعني د. هاني: - حضرتني الآن قصة سبأ، في قوله -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (سبأ:15). سكت قليلا يستذكر الآيات، نعم، تابع حديثه: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (سبأ:16-17). - أحسنت. - وكذلك قول الله -تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (النحل:112-113). - أظن هذه الآية الأخيرة، نزلت في قريش. - نعم. وضع الدكتور كمام الأنف على وجهه وطلب مني أن أثني ركبتي، عقمها جيدا، تحسس المكان الذي يريد أن يدخل الحقنة فيه، تجنبت النظر، أغمضت عيني، وانتهينا من الأمر، وضع لزق طبية مكان الحقنة، تابعنا حديثنا: سألته، لماذا حقنت في هذه النقطة بالذات؟ - الركبة غرفة واحدة، حيثما حقنت يصل الدواء ولكنني أفضل المكان الذي أظن أنه أقل إيلاما! - أحسنت وجزاك الله خيرا. تابعنا حديثنا. ومثل الله مثلا لمكة التي سكنها أهل الشرك بالله هي القرية التي كانت آمنة مطمئنة، وكان أمنها أن العرب كانت تتعادى، ويقتل بعضها بعضا، ويَسْبي بعضها بعضا، وأهل مكة لا يغار عليهم، ولا يحاربون في بلدهم، فذلك كان أمنها كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن يسر الله لها الرزق يأتيها من كل مكان، فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانته وصدقه، يدعوهم إلى أكمل الأمور، وينهاهم عن الأمور السيئة، فكذبوه وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد، والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل:33).
لاتوجد تعليقات