السلفية منهج متكامل بين الماضي والحاضر والمستقبل
تظلُّ السجالات حول سُبُل تقدم المسلمين في الجوانب الدينية والفكرية والعلمية والحضارية مستمرةً، والتباحث في هذا الموضوع لا شكَّ أنه يثري الساحة العلميةَ والحضارية، لكن يتَّخذ بعض الكتاب هذا الموضوع تكأةً للطَّعن في المنهج السلفي؛ بادّعاء وقوف السلفية حجرَ عثرة أمام تقدّم الأمَّة الإسلامية؛ وذلك لأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالماضي، ومكبَّلة به بحسب زعمهم، فهم يرون أنَّ ما يعيق تقدّم الأمة هو الارتباط بالسلف الصالح أو حتى بزمن الصحابة -رضوان الله عليهم-، ومتى ما استطعنا الانفكاكَ عن هذه العلاقة يمكننا أن نتقدَّم في كل الجوانب.
ومن يطرح هذا الأمر لا يطرحه في جانبٍ دون آخر، أعني أنَّهم لا يتكلّمون عن الحضارة الماديَّة فحسب، بل عن العلاقة بين الماضي والحاضر ؛ سواء كانت في الجانب الديني والخلقي والعلمي، أم الدنيوي المادي العمراني، فيجعلون السلفية وراء كل تخلف للأمة الإسلامية، ويربطون التقدم الحضاري والمادي بنبذ الماضي وترك التعلق بالنصوص وفق فهمٍ معين؛ ليبحر العقل -بحسب زعمهم- في معانٍ تتوافق مع الوقت المعاصر، وتجعل المسلمين يتقدَّمون حضاريًّا وماديًّا.
التعامل السلبي مع الماضي
ولذلك يرون أنَّ التعامل السلبي مع الماضي هو التعامل الذي يفضي بنا إلى جعل سلوك السلف الصالح صالحًا لكل وقت، ويعزو بعضهم هذا إلى التَّيار الحنبلي المتشدّد متمثلًا في ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ومدرستهما، وينادي كثيرٌ من الحداثيين إلى قطع كل العلاقات بالماضي؛ لأنَّ الحاضر يجب أن ينطلق من الحاضر نفسه حتى في المسائل القطعيَّة في الدين، فالقطيعةُ مع الماضي سمة بارزة من سمات الكتابات الحداثيَّة، يقول إسماعيل مظهر: «والمحصّل من مجمل هذا أنَّنا لا نكون أبعدَ عن الإقساط في القول وأقرب إلى الشَّطط منَّا إذا اعتقَدنا أنَّ تراثَ الماضي يجب أن يكونَ نبراسَنا الذي ينير لنا مفاوزَ الحاضر؛ فإنَّ الحاضرَ هو -في الواقع- قائدنا وهادينا، وما الماضي إلا صفحة بائدة نستقرئ فيها بعض ما يبرِّر لنا نظامات الحاضر التي نشعر بأننا في حاجة إليها، على هذا يجب أن نقتلَ في عقولنا فكرةَ التأثُّر بالماضي، وأن نقوّيَ في عقلياتنا ما استطعنا فكرةَ عبادة الحاضر». فهل السلفية حقًّا تقِف حجر عثرة أمام التقدّم الحضاري للمسلمين بسبب تمسكها بالماضي؟ هذا ما أروم الإجابة عنه في هذا المقال عبر الآتي:
أولًا: التَّعلق بالماضي بعمومه ليس عيبًا
التَّعلق بالماضي بعمومه ليس عيبًا، وهنا ينبغي التَّنبّه لنقطة مهمة؛ وهي أنَّ هناك من ينفي -في حال الدفاع عن السلفيَّة- تعلقَ السلفية بالماضي بالعموم، وهذا نفيٌ خطأ، ولسنا بحاجة إلى نفي كلّ ما يثار ضدَّ السلفيَّة، فإنَّ بعض ما يثار هو الحق بعينه، إلا أنَّهم لا يريدون ذلك الحقّ، فيدفعونه بربطه بالسلفيَّة، وحقيقة الأمر أنَّهم ضد السلفية وضد ذلك الأمر أيضًا، وهو الذي لو فصل بينه وبين السلفية وردَّ بمفرده لربما كان ردهم له مستشنعًا أكثر، فإذا أرادوا نقد أمرٍ شرعيٍّ يربطونه بالسلفية إيحاءً منهم بأن هذا من نتاج فكرهم الخاص، وهم إنما يرفضون هذا الفكر لا الأمر الشرعي، فهذه نقطة ينبغي التنبه لها، وموضوع المقال من أقرب الأمثلة أيضًا لذلك، فإنَّهم يشنعون على السلفيَّة تعلّقَهم بالماضي، ويدَّعون أنَّ هذا المنهج هو ما يؤخّر المسلمين ويمنعهم من التقدم الحضاري، لكن ما الماضي الذي يجب علينا ألا تتمسّك به؟ وفي أي جانب؟ وما وجه كون التمسك بذلك الماضي سببًا في التخلف والرجعيَّة أو مانعًا من التقدم؟ كل هذه التفصيلات مهمٌّ جدًّا استحضارها أثناء مناقشة مثل هذا الأمر الفضفاض الذي يطلقونه.
منهجٌ متكاملٌ
وبدون الخوض في التفاصيل فإنَّ السلفية منهجٌ متكاملٌ، يبدأ من الماضي ويمتدُّ إلى الحاضر والمستقبل، فلا انقطاع بين الحاضر والماضي، كلُّ ما يمكن أن يقال: إنَّ التعلق بالماضي ليس في كل جزئيَّاته ولا تفاصيله، وإنَّما هناك انطلاقة من الماضي وتمسك به في جوانب، وتجديد في جوانب أخرى، وبعثٌ لجديد في جوانب ثالثة وهكذا، فالسلفية لا تجعل التَّعلق بالماضي قانونًا واحدًا في كل حالاته، وهو عين التكامل، فكيف يصبح هذ المنهج حجر عثرة أمام تقدم المسلمين؟! بل حتى الحضارة المادية لا تُبنى بشكلٍ منبتٍّ منفصلٍ بكليَّةٍ عن الماضي برمَّته.
السلفية لا تنفي تعلقَها بالماضي
وخلاصة هذا أن نقول: إنَّ السلفية لا تنفي تعلقَها بالماضي، ولا تعدّ ذلك مثلبةً عليها؛ لأنَّها تفصل وتفرق بين ما يجب التعلق فيه بالماضي وبين ما يدخله التَّجديد، وهذا منهجٌ عقليّ سليم؛ ولذلك الإسلام نفسه لم يكن منقطعًا عن الماضي، بل قال الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9)، وهكذا تُبنى الأمم والحضارات بالاتصال بالماضي والاستفادة منه، لا بالانقطاع عنه.
ثانيًا: السلفية تتمسك بالقطعيات
السلفيَّة تتعلق بالماضي، وتبني عليه في أمورٍ محدَّدة واضحة، فهم يؤمنون أنَّ القطعيات في الدين كأصول الاعتقادات وأصول الأحكام الشرعية لا مجال لتغييرها؛ بل لا صلاح في تغييرها، وهذا أمرٌ لا تنكره السلفية، بل ترى أنَّه هو المتعين على كل المسلمين، ومن هنا ينطلقون في تأطير الحياة المعاصرة وفق هذه القطعيات والأصول، والتَّجديد في هذه المسائل هو بإظهار حقيقتها إذا لحقها زيفٌ أو تشويهٌ، والانطلاق منها في صناعة الحضارة المادية المعاصرة.
ثالثًا: هل التَّقدم يكون بالانقطاع عن الأصول؟
لا تقول السلفية: إنَّ كل القطعيات في الدين والأصول لا تتعارض بأيِّ شكل مع الحضارة المادية الغربيَّة المعاصرة، ومع ذلك فإنَّ إقامة الحضارة يجب أن تكون وفق هذه الأصول، والمنع من إقامتها إذا كانت معارضة لأصول الشريعة لا يعني أنَّ السلفية تقف حجر عثرة أمام الحضارة؛ وإنَّما يعني أنَّ السلفية ترى أن هذه الأصول والمحكمات هي التي تجعل الحضارة المبنيَّة عليها حضارة أفضل وأرقى وأكثر بقاء، فالذين ينعتون السلفية بأنهم يمنعون التقدم والحضارة لتمسّكهم بالمحكمات مشكلتُهم أنَّهم يرون الحضارة الغربية المعاصرة هي المعيار الوحيد للحضارة الناجحة، بينما لا يدركون -أو يتعامون عن- المشكلات الكبرى داخل تلك الحضارة نفسها.
تحريم الربا
ومن أمثلة المحكمات في الدين التي تعارضها الحضارة الغربية المعاصرة: الربا مثلًا، ولا شك أنَّ المسلم يحرّمه كما حرَّمه الله في كتابه، والتمسك بهذا التحريم تمسكٌ بالماضي، وهو متعارضٌ مع الحضارة الغربيَّة بلا ريب، ولذلك ينادي كثير من الحداثيين وأبناء المستشرقين إلى إعادة قراءة مثل هذه المسائل لأنها -ظنًّا منهم- تمنع من تقدم المسلمين، بينما في الواقع لا شك أنَّ الحضارة التي تقوم على نبذ الربا أفضل وأرقى وأكثر تماسكًا في الجانب الاقتصادي من الحضارة التي تقوم على الربا، فالمشكلة هي وضع حضارة معينة معيارًا للحضارة الفاضلة المرجوَّة من المسلمين دون النظر في مشكلاتها.
رابعًا: مجرد مغالطة
السلفيَّة لم تناد يومًا بإقامة الحضارة المعاصرة في الأمور الحياتيَّة الدنيوية وفق الحياة الدنيوية في الماضي، فليس منهم معتبَرٌ ينادي بتحريم المركبات والمخترعات لذاتها، ولا من ينادي بوجوب الأخذ بالماضي في السَّكن والسَّفر ووسائل الاتصال والإعلام وغير ذلك من أعمدة الحضارة المادِّيَّة المعاصرة، فقول الحداثيين: “إن السلفية تتعلّق بالماضي وهذا يمنع من الحضارة والتقدم” هو نقدٌ لشيءٍ غير موجود بهذا العموم، فهم يمارسون مغالطَة رجل القشّ في هجومهم على السلفية، بينما كان من المفترض أنهم يبيّنون نوعَ الماضي الذي يتمسّكون به، وحقيقة قول السلفية في الحضارة المادية المعاصرة؛ حتى تكون الصورة واضحة قبل نقدها، لكنهم لا يفعلون ذلك لسببين:
- الأول: لأنهم يعلمون أن المعتبَرين من السلفية لم يحرّموا الحضارة المادية المعاصرة، ولم ينادوا بتحريم المخترعات والمكتشفات الحديثة، ولم يقولوا ببناء الحضارة وفق الحضارة المادية القديمة.
- الثاني: لأن نزاعهم ليس فقط مع السلفية، وإنما مع أمور قطعية في الدين، يرون أنها تعارض الحضارة المعاصرة، ويسعون إلى إلغائها.
فهم يتحدّثون عن منعٍ للتقدّم؛ وذلك لأنَّ السلفيَّة تحرِّم أمورًا يرونها هم من الحضارة المعاصرة؛ مثل الربا وتنحية الشريعة عن الحكم والقضاء وإباحة بعض المحرمات القطعية المصاحبة لبعض مظاهر الحضارة المعاصرة، وهي التي تعرقل الحضارة التي يريدونها لا الحضارة الحقيقية، فصدامهم معها لا مع السَّلفيَّة؛ ولذلك يصرح بعضهم بوجوب تنحيتها، ويربطونها بالسلفية والتخلف والرجعية بوصفها نوع تشويهٍ لهذه القضايا حتى يسهل نقدها.
لاتوجد تعليقات