رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 27 يونيو، 2021 0 تعليق

السلفية منهج متكامل بين الماضي والحاضر والمستقبل (2)

 

ما زال حديثنا مستمرًا في الإجابة عن سؤال: هل تقف السلفية حجرَ عثرة أمام تقدّم الأمَّة الإسلامية؟ وقد ذكرنا أن بعض الناس يتخذ هذا الموضوع تكأةً للطَّعن في المنهج السلفي؛ وذلك لأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالماضي، ومكبَّلة به -بحسب زعمهم-، فهم يرون أنَّ ما يعيق تقدّم الأمة هو الارتباط بالسلف الصالح أو حتى بزمن الصحابة -رضوان الله عليهم-، ومتى ما استطعنا الانفكاكَ عن هذه العلاقة يمكننا أن نتقدَّم في كل الجوانب، وقد ذكرنا أربع نقاط في الرد على هذه الشبهة، وهي أنَّ التَّعلق بالماضي بعمومه ليس عيبًا، وأن السلفية تتمسك بالقطعيات، وأن التَّقدم لا يكون بالانقطاع عن الأصول، وأن السلفيَّة لم تناد يومًا بإقامة الحضارة المعاصرة في الأمور الحياتيَّة الدنيوية وفق الحياة الدنيوية في الماضي.

خامسًا: السلفية تدعو إلى الاجتهاد ونَبْذ التقليد

     مما يبين عدم تمسُّك السلفيَّة بكل الماضي أنَّها تدعو إلى الاجتهاد والتجديد الصحيح في كثير من القضايا، ولا سيما تلك القضايا التي تتعلق بالمتغيرات الحياتيَّة، فلا شك أنَّ النصوص الشرعية القطعية محددة والوقائع لا تنحصر، فيتركون المجال مفتوحًا للمتخصص بأن يقدم رأيه وفق الأدلة العامة والقواعد الشرعية، يقول الشاطبي رحمه الله: «الوقائع في الوجود لا تنحصر؛ فلا يصح دخولها تحت الأدلَّة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصًا على حكمها ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك فإمَّا أن يُترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضًا اتباع للهوى، وذلك كله فساد؛ فلا يكون بد من التَّوقف لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف لزومًا، وهو مؤدٍّ إلى تكليف ما لا يطاق، فإذًا لا بد من الاجتهاد في كل زمان؛ لأن الوقائع المفروضة لا تختصُّ بزمان دون زمان، ومن يعرف السلفيَّة -قديمًا وحديثًا- يعرف أنَّها تدعو إلى الاجتهاد وفتح بابه، فعلماؤها من أكثر من يدعون إلى الاجتهاد ونبذ التقليد والجمود، ولا يختصُّ هذا الاجتهاد بالمسائل الشرعيَّة الخالصة، بل كثيرًا ما تناقش القضايا الحياتية الدنيوية في جانب تعلقها الديني.

سادسًا: ربط الحضارة والتَّقدم بالزمن ليس ربطًا صحيحًا

     فمن الخطأ جعل كل الماضي وكل ما يتعلق به خطأ وتخلفًا لمجرد أنَّه من الماضي؛ فكم دولة كانت عظيمة في الماضي وقد تأخرت اليوم! بل حتى على مستوى الجانب الأخلاقي والقيمي، هل ما عليه الناس اليوم هو المعيار للأخلاق الصحيحة، أم أنَّ المعيار يجب أن يكون منضبطًا لا يختلف من زمن لآخر؟ ولا سيما وأن حاضر اليوم والذي يتحدثون عنه هو ماضي المستقبل، فهل يصبح ما نحن عليه الآن خطأ وتخلفًا لمجرد أنه سيصبح ماضيًا بعد سنوات عدة ؟! إذًا فمعيار التَّخلّف أو التَّقدم ليس باعتبار الزمن فقط، بل باعتبارات أخرى عديدة حتى في الجانب المادي.

جعلوا التاريخ الغربي هو الحكم

     وسبب هذا الربط لديهم هو أنَّهم جعلوا التاريخ الغربي هو الحكم، يقول د. مصطفى حلمي: «إنَّ الفكرة مرتبطة بالمراحل التَّاريخية التي مرَّ بها الغرب؛ إذ انتقل في تطوره المادي من العصور القديمة إلى الوسطى فالحديثة والمعاصرة، وفي ضوء هذا التَّقسيم واقتران كل مرحلة بظروفها أصبح الغربيُّ عندما ينظر إلى تاريخه يفزعه المدلول السلفي؛ لأنَّ مضمونه التاريخي والحضاري يلقي في قلبه الرُّعب، فالسلفية في نظر الإنسان هناك عمومًا تعوقه عن التقدم المادي في الصناعة والزراعة وحقول العلوم والمعارف المختلفة، فهل شاركت السلفية الإسلامية سلفية الغرب في هذه التصورات والاعتقادات الباطلة وعرقلة أي علم دنيوي كما كانت تفعله الكنيسة؟ والجواب أنَّ ذلك لم يكن؛ فمن الخطأ أن نقرن السلفيَّة الإسلامية بالسلفية الغربية -إن صحت التسمية- لمجرد أنَّهما مرتبطتان بالماضي، بل يجب الانطلاق في الحكم من خلال معرفة هذا الماضي ومدى عرقلته لقيام الحضارة».

سابعًا: هل فعلًا تخلصت الحداثة من الماضي؟

     النَّاظر في أفكار الحداثيين يجد أن كثيرًا منها مجرد جرٍّ لحمولات ثقافية أخرى، وبثها بين المسلمين دون أن يكون هناك تجديدٌ حتى في موضوع التلاؤم بين الفكرة وروح الحضارة الإسلامية، فالتَّحرر من الماضي والانفكاك الكلِّي عنه مجرَّد وهْمٍ وتخيل غير متحقق في الواقع، بل الغرب نفسه لم يثر على الماضي حين بنى حضارته الماديَّة المعاصرة، يقول محمد عزيز الحبابي: «ادَّعت الحركة الثَّقافية في عصر النهضة الأوروبيَّة أنَّها فرصة للحرية والتَّجديد، إلا أنَّها لم تكن تحررًا حقيقيًّا، فهي لم تتحرر من (النير الكليريكالي) في العصور الوسطى إلا لتخضع بطريقةٍ ما لثقافة اليونان والرومان (خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء)... هكذا التجأ مفكرو النهضة إلى قداسة الكلاسيكيين لكي يسوغوا كل ما يبدعونه ويسبغوا عليه المشروعية»»، وكل ما فعله الحداثي هو أنَّه تنصَّل من التمسك بالشريعة الإسلامية وراح يتمسك بأعتاب ماضي أوروبا وحاضرها، وهذا يعترف به الجابري ويبينه فيقول: «إذا كان المصلح السَّلفي قد فكَّر في الإصلاح والتحرير بعقلٍ ينتمي إلى الماضي العربي الإسلامي، ويتحرك ضمن إشكاليَّته، فإنَّ الليبرالي العربي قد بشَّر بالنَّهضة والتقدم بواسطة مُركّبات ذهنية تنتمي إلى الماضي والحاضر الأوروبي، ومركبات التقطها -كما يقول- من أفواه كلٍّ من (أبسن وشولز وفولتير وروسو وداروين وفرويد وماركس) وغيرهم من أقطاب الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، إنَّ الليبرالي العربيَّ هنا يسكت تمامًا عن الماضي العربي، فهو لا يدخل في اهتمامه بل يبعده بكل إصرار، فلا يوجد إذًا انعتاقٌ من الماضي، وإنما يوجد فقط اختلافٌ فيمن نتمسك بهم، فإمَّا الوحي المعصوم عند السلفية، وإما فتات أفكار غربية كما عند الحداثيين».

التعلق بالماضي ليس تهمة

     وأخيرًا: فإن التعلق بالماضي ليست تهمة ينبغي التخلص منها، بل المنهج السليم المعتدل هو أن يأخذ الإنسان من ماضيه ليبني عليه حاضره ومستقبله في الجوانب كلها، والسلفية دعت إلى التمسك بالأصول والقطعيَّات، وفتحت باب الاجتهاد فيما سواها، مع عدم الأخذ بما يتعلق بالماضي، ولا سيما فيما يتعلق بالحضارة المادية، فالقول بأنها تقف حجر عثرة أمام التقدم والحضارة أمرٌ غير صحيح، بل العديد من المثقفين المتشبعين بالتُّراث وروحه تخطوا هذا الطَّرح الهزيل لقضيَّة التراث التي يرونها تتمثل في بعث روح حضاريَّة تربط الحاضر بالماضي، وتؤكِّد الأصالة تأكيدها على المعاصرة، ورغم أنَّهم لا يؤمنون بشد العربة إلى الوراء ولا الالتزام الحرفي بجوانب الماضي، بل يؤكدون عوامل التَّقدم الحضارية، لكنهم يضعون إطارًا عامًّا للتَّطور يحكمه الوحي الإلهي الذي ينبغي أن يشكّل روح الحاضر ودستوره العام، كما كان في عصور الإسلام الذهبية، وهذا التيار يمثله الاتجاه السلفي، كل ما في الأمر أنَّ السلفية أكدت أنَّ الحضارة لا يمكن أن تكون متينةً صالحةً إلا إذا راعت قواطع الشريعة ومحكماتها، والدعوة إلى القطيعة مع هذه المحكمات هي دعوة إلى القطيعة مع الدين كله، وبناء حضارة خالية من القيم والأحكام الإسلامية، فهي إذًا حضارة أخرى لا يمكن أن تدعى أنَّها حضارة إسلامية.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك