رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. خالد آل رحيم 19 ديسمبر، 2018 0 تعليق

السلفية بين الإقصاء والادعاء (10) السلفية وتقديم النقل على العقل (2) نقد وتحليل لمؤتمر السلفية تحولاتها ومستقبلها

تحدثنا في المقال السابق عن تعريف العقل ومكانته في الإسلام، وأنه ليس له السيادة الكاملة، ولكن له حد لا يتعداه، واليوم حديثنا عن علاقة العقل بالشريعة.

أولاً: علاقة العقل بالشريعة

     جاءت الشريعة بحفظ الضروريات الخمس وهي: الدين، والعقل، والمال، والنفس، والنسل، وهذه المصالح راعتها الشرائع جميعاً، وإن اختلف في طرائق رعايتها والمحافظة عليها، والشريعة الإسلامية وهي خاتمة الشرائع راعتها على أتم وجوه الرعاية؛ فشرعت الأحكام لإيجادها أولاً والمحافظة عليها ثانياً، والعقل وهبه الله  تعالى للناس؛ فهم في أصله سواء، وشرع لحفظه تحريم ما يفسده من كل مسكر ومعاقبة من يتناول المسكرات والمخدرات (الوجيز في أصول الفقه 380)، وأوجبت الشريعة دية كاملة على كل من جنى على العقل ورغبت في التفكر والنظر والتدبر؛ مما يُنمي العقل (العقد الثمين 48).

 ثانياً: إعمال العقل جزء من أحكام الشريعة

     فقد أمر -تعالى- كل من يعاند شرعه أن يُعمل عقله ليأتي بالبراهين على قوله الذي يصادم الشريعة؛ فقال -تعالى-: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(بقرة111)، وكذلك دعا أهل الكتاب إلى التعقل فيما يحاجون؛ لأن حجتهم باطلة؛ وذلك لسبب بسيط، أن التوارة والإنجيل لم ينزلا إلا بعد إبراهيم، فلو أنهم أعملوا عقولهم، ما قالوا قولتهم الباطلة، فقال -تعالى-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 65).

وكذلك دائما ما يدعو -جل وعلا- إلى تدبر القرآن، وهذا لا يكون إلا من عقول سليمة صحيحة؛ لأن هذا التدبر المخلص دائماً ما يقود للحق؛ فقال -تعالى-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}  (النساء: 82).

 ثالثاً: رحمة الله بالعقل

     ومن أعظم رحمات الله -تعالى- بالعقل الذي هو مناط التكليف إرسال الرسل إليه لهدايته ولبيان ما خفي عليه، ومالم يكن للعقل قدرة على معرفته من الغيبيات كقوله -تعالى-: {وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلًا} (إسراء: 85).

رابعاً: اشتمال القرآن على الأدلة العقلية

     قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: إن القرآن بين فيه أصول الدين في المسائل والدلائل بيانا في غاية الإحكام ونهاية التمام، وأن خلاصة ما يذكره أهل الكلام والفلسفة، إنما هو ما بينه القرآن والحديث مع سلامة ذلك عما في كلامهم من التناقض والاختلاف واشتماله على ما تقصر عنه نهاية عقولهم وما لا يطمعون أن يكون مدلولهم، وبينا أن تعريف الشارع ودلالة الشرع ليس مجرد الإخبار كما يظنه من يظن ذلك من أهل الكلام والفلسفة؛ فإن الله -سبحانه- ضمن كتابه العزيز فيما أخبر عن نفسه وأسمائة وصفاته من الأدلة والآيات والأقيسة التي هي الأمثال المضروبة ما بين ثبوت المخبر بالعقل الصريح، كما خاطب أولي الألباب والنهى ومن يعقل ويسمع، بل قد ضمن كتابه من الأدلة العقلية في أمر المعاد ما هو بين لعامة العباد، بل ضمن في كتابه العزيز من الأدلة العقلية على ثبوت الأمر والنهى والوعد والوعيد، قال: ويذكر من الآيات والأمثال المضروبة التى هى مقاييس عقلية وبراهين يقينية ما لا يمكن أن يذكر أحد من أهل الكلام والفلسفة ما يقاربه، فضلاً عن ذكر ما يماثله أو يفضل عليه, ومن تدبر ذلك رأى أنه لم يذكر أحد طريقاً عقلياً يعرف به وجود الصانع أو شيء من أحواله من أهل الكلام والفلاسفة، إلا وقد جاء القرآن بما هو خير منه وأكمل وأنفع وأقوى وأقطع بتقدير صحة ما يذكره هولاء (درء تعارض العقل والنقل ج7 ص 352)

 خامساً: تصنيف أهل الإسلام  تجاه العقل

فأهل الإسلام باختلاف طوائفهم تجاه العقل على ثلاثة أصناف:

الصنف الأول

      قوم غلوا في تقديس العقل؛ فحكموا العقل وقدموه على النقل وجعلوا النقل تابعاً للعقل؛ فما وافق العقول من النصوص قبلوه، وما خالفه ردوه بحجة أن الأدلة العقلية قطعية الثبوت، أما الأدلة النقلية ظنية الثبوت؛ ولذا عند تعارضها يجب  تقديم الدليل العقلي والأخذ به، وهو رد مخالف للمعقول وقد رد عليهم الشاطبي -رحمه الله- فقال: وهم يردون الأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدعون مخالفة المعقول وغير جارية على مقتضى الدليل؛ فيجب ردها كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله -جل وعلا- في الآخرة، وكذلك حديث الذبابة وقتلها، وأن في أحد جناحيها داء وفي الآخر دواء، وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولاً بما لا يعقل، وقد سئل بعضهم هل يكفر من قال بعدم رؤية الباري في الآخرة؟ فقال: لا يكفر؛ لأنه قال مالا يعقل، ومن قال ما لا يعقل فليس بكافر (الاعتصام 164) 

الصنف الثاني

      قوم ذموا العقل وعطلوه وأصبحوا يقرون من الأمور ما يُكذب به صريح العقل، وهذا هو موقف الخرافيين من المتصوفة، قال ابن تيمية -رحمه الله-: وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه ويرون أن الأحوال العالية والمقامات الرفيعة لا تصل إلا مع عدمه، ويقررون من الأمور بما يكذب به صريح العقل، ويمدحون السكر والجنون والوله وأموراً من المعارف والأحوال التى لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يُعلم بالعقل الصريح بطلانها (مجموع الفتاوى).

 الصنف الثالث

      قوم توسطوا بين من غلا في العقل وقدسه، وبين من عطله وألغاه، وهم أهل السنة والجماعة الذين عرفوا للعقل قدره، فلم يغلوا فيه ويجعلوه وحده أصل عملهم، ولم يقروا من الأمور بما يكذب صريح العقل؛ لأن كلا الطرفين مذموم، ويوضح هذه الوسطية لمنهج أهل السنة شيخ الإسلام؛ حيث قال: العقل شرط في معرفة العلوم وكمال الأعمال وصلاحها، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك وهو غريزة في النفس، وقوته فيها قوة البصر التى في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التى يعجز وحده عن دركها، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يُعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفين فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم، واعتقدوها حقاً وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم  (نقلا عن السياق القرآني ص60)، والسلفية وسط بين كل هؤلاء؛ فهي لم تعطل العقل تعطيلاً كاملاً، ولم تقدسه تقديسا متناهياً، بل أعطت للعقل حقه وقدره، كما أعطاه له المولى -تعالى .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك