رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 6 يونيو، 2017 0 تعليق

الساعي إلى سبيل الرشاد(1) تأملات قرآنية من سورة عبس

 

قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس:1-10)، أجمع المفسرون على أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات: أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي   صلى الله عليه وسلم  ويتعلم منه، وجاءه رجل من الأغنياء، وكان  صلى الله عليه وسلم  حريصاً على هداية الخلق؛ فمال صلى الله عليه وسلم وأصغى إلى الغني، وصد عن الأعمى الفقير، رجاءً لهداية ذلك الغني، وطمعاً في تزكيته؛ فعاتبه الله -تعالى- بهذا العتاب اللطيف.

     وروى الترمذي (3/126 - صحيح) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أنزل {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: «أترى بما أقول بأسا؟» فيقول: لا، ففي هذا أنزل.

وقد دل المأثور في سبب النزول على: أن الساعي هاهنا كان قاصداً سبيل الرشاد الذي هو ضد الغي؛ وهو: اسم جامع لكل ما يرشد إلى المصالح الدينية والدنيوية، وهو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة.

{عَبَسَ وَتَوَلَّى - أَن جَاءهُ الأَعْمَى}

عبس؛ أي: في وجهه، وتولى في بدنه؛ لأجل مجيء الأعمى له، وأن جاءه الأعمى في موضع نصب؛ لأنه مفعول لأجله؛ المعنى: لأن جاءه الأعمى، وهذا بيان لعلة التولي؛ كما ذكر أهل التفسير.

قلت: وهذه العلة ليست المجيء ذاته، وإنما لحال النبي صلى الله عليه وسلم في الانشغال بهداية المعرض عند مجيء الأعمى، والله أعلم.

- قال الصاوي (4/291): إنما أتى بضمائر الغيبة {عَبَسَ وَتَوَلَّى} تلطفاً به صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له؛ لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى من الشدة والصعوبة.

- والتعرض لصفة عماه: إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم، وتشاغله بالقوم، وإما لزيادة الإنكار؛ كأنه قيل: تولى لكونه أعمى، … وكان يجب أن يزيده لعماه، تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً.

- والآية ذكرته بلقب يكرهه الناس، مع أن الله -تعالى- قال: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}، وهذا التعارض الظاهر يُدفع من وجوه:

- إن هذا الوصف جاء من باب التعريف في غرض سليم دون تنقص.

- للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وللإيذان بالرفق به، ومراعاة حاله.

- وذكر بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}: فهذا كفيف البصر، ولكنه وقاد البصيرة، أبصر الحق وآمن به، وجاء مع عماه طالباً للمزيد.

- والعبوسة أمر لا يتفق في الظاهر مع قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.الذي يظهر - والله تعالى أعلم -، أنه لا يتأتى معه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بما يسيء إلى هذا الصحابي في نفسه بشيء يسمعه، كل ما كان منه صلى الله عليه وسلم إنما هو تقطيب الجبين، وهي حركة مرئية لا مسموعة، والحال: أن هذا أعمى لا يرى تلك الحركة، فكأنه لم يلق إساءة منه صلى الله عليه وسلم؛ فعوتب من باب التسامي بأخلاقه صلى الله عليه وسلم إلى ما لا نهاية له، إلى حد اللحظ بالعين، والتقطيب بالجبين، ولو لمن لا يراه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين» وذلك في صلح الحديبية.

{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى - أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى}

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في (المجموع) (16/164): «فأمره أن يقبل على من جاءه يطلب أن يتزكى وأن يتذكر»، وقال الشوكاني - رحمه الله تعالى - في (فتح القدير) (5/382): «لعله يزكى: مستأنفة لبيان أن له شأناً ينافي الإعراض عنه، أي: لعله يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك»، «والمعنى: انظر فقد يكون تزكِّيه مرجوا؛ أي: إذا أقبلت عليه بالإرشاد؛ زاد الإيمان رسوخاً في نفسه، وفعلَ خيراتٍ كثيرة مما ترشده إليه؛ فزاد تزكية»، أي: للتنبيه على أن الإعراض عنه عند كونه مرجو التزكي مما لا يجوز، فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكي؟! وفيه إشارة إلى أن من تصدى لتزكيتهم من الكفار لا يجرى منهم التزكي والتذكر أصلاً.

- وتقديم التزكية على التذكر، من باب تقديم التخلية على التحلية، والتزكي: هو الإيمان والعمل الصالح الذي تصير به نفس الإنسان زكية؛ قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى < وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} فالتزكية وإن كان أصلها: النماء، والبركة، وزيادة الخير، فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع بينَ هذا وهذا.

    وإن كانت التزكية هي معنى زائد على قدر التطهر من الذنوب فقط، بل تتزكى النفس بكل ما تتحصل به المنافع، وتندفع به المضار، ومحل التزكية القلب؛ ولهذا صار الإيمان والقرآن غذاء القلب المتزكي؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (المجموع) (10/95-96)،» وفيه - أي القرآن - من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب؛ فيرغب القلب فيما ينفعه، ويرغب عما يضره؛ فيبقى القلب محباً للرشاد مبغضاً للغي، بعد أن كان مريداً للغي مبغضاً للرشاد.

فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة حتى يصلح القلب؛ فأصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها، كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي ويتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويؤيده، كما يتغذى البدن بما ينميه ويقومه..».

- أما ذكر التزكي مع التذكر فهو لوجوه:

- أحدها: أن التزكي يحصل بامتثال أمر الرسول، وإن كان صاحبه لا يتذكر علوماً عنه؛ كما قال: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}، ثم قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: فالتلاوة عليهم والتزكية عام لجميع المؤمنين، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعضهم، وكذلك التزكية عام لكل من آمن بالرسول، وأما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها؛ فعرف بتذكره ما لم يعلمه غيره من تلقاء نفسه.

- الوجه الثاني: أن قوله: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} يدخل فيه النفع قليله وكثيره، والتزكي أخص من ذلك.

- الثالث: أن التذكر سبب التزكي، فإنه إذا تذكر خاف ورجا؛ فتزكى، فذكر الحكم وذكر سببه، ذكر العمل وذكر العلم، وكل منهما مستلزم للآخر؛ فإنه لا يتزكى حتى يتذكر ما يسمع من الرسول كما قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى}؛ فلابد لكل مؤمن من خشية وتذكر، وهو إذا تذكر فإنه ينتفع وقد تتم المنفعة؛ فيتزكى.

-  والتزكية تحصل على إثر السماع المجمل؛ أي: هي مُترتبة على سماع التلاوة؛ كما قال تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}، وفي هذا المعنى يقول أبو السعود في تفسيره (3/162): «التزكية: عبارة عن تكميل النفس حسب قوتها العملية، وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية، الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة».

- وكان عند ابن أم مكتوم - رضي الله عنه- علم سابق عند مجيئه، وهو أن طريق الرشاد المتضمن للتزكية والتذكر مسلَّم إلى الرسل؛ فلا يتحصل إلا بالتعلم والسعي لذلك، وفي هذا المعنى يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في (المدارج) (2/314-315):

«فإن تزكية النفوس مسلّم إلى الرسل وإنما بعثهم الله لهذه التزكية، وولاهم إياها وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليماً وبياناً وإرشاداً، لا خلقاً ولا إلهاماً، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم».

- والتذكر: تفعّل من الذكر، وهو ضد النسيان، وهو حضور صورة المذكور العلمية في القلب واختير له بناء التفعل، لحصوله بعد مهلة وتدرج؛ كالتبصّر والتفهّم والتعلّم.

وجملة: «أو يذكر»: عطف على يزكى؛ أي: ما يدريك أن يتحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم؛ أي: يتحصل الذكرى في نفسه بالإرشاد، لما لم يكن يعلمه، أو تذكر، لما كان في غفلة عنه.

     والتذكر قرين الإنابة؛ قال - تعالى - {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}؛ فالتبصرة آلة البصر، والتذكرة آلة التذكر، وقرن بينهما وجعلهما لأهل الإنابة؛ لأن العبد إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر؛ فاستدل بها على ما هي آيات له فزال عنه الإعراض بالإنابة والعمى بالتبصر، والغفلة بالتذكر.

فائدة:

فمتى قويت إنابة العبد وتذكره: لم تشتد حاجته إلى العظة - وهي الترغيب والترهيب - ولكن تكون الحاجة منه شديدة إلى معرفة الأمر والنهي.

     والعظة يراد بها أمران: الأمر والنهي المقرونان بالرغبة والرهبة، فالمنيب المتذكر شديد الحاجة إلى الأمر والنهي، والمعرض الغافل شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب، والمعارض المتكبر شديد الحاجة إلى المجادلة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

فالمخاطب في الآية هو المنيب المتذكر الذي جاء يسعى لتحصيل النفع الشرعي والديني، فهو من أهل الحكمة؛ فيجب أن يقدم على غيره في خطاب التذكر؛ لتحصيل العلم المفصل المتضمن لأنواع الأوامر والنواهي؛ فتأمل.

- ولما كان التذكر يحصل لمن له علوم يذكرها؛ فإن الساعي إلى الرشاد الموصوف بالخشية كان بحاجة إلى الدليل الهادي المفصل، فهو يحتاج إلى الظفر بهذا الدليل أولاً، ويحتاج إلى أن يهتدي به وينتفع ثانياً، ويحتاج إلى أن ينزّل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة ثالثاً، فإذا حصل للعبد غفلة وذهول استذكر هذه العلوم، فضلاً عن العلوم والإرادات الفطرية، فزال عنه الإعراض، وتذكر بهذه العلوم والإرادات مطالب القرآن الكبرى.

     ويقول شيخ الإسلام في (درء تعارض العقل والنقل) (7/425)،: «وقد يكون العلم والإرادة حاصلين بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل، مع نوع من الذهول والغفلة، فإذا حصل أدنى تذكر رجعت النفس إلى ما فيها من العلم والإرادة، أو توجهت نحو المطلوب؛ فيحصل لها معرفته ومحبته».

     وأيضاً، فذكر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا، فيحصل بمجرد عقله، وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد، فبالأول يكون ممن له قلب يفعل به، والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها، وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.

أيُّ رجل حي القلب، مستعد، تليت عليه الآيات؛ فأصغى بسمعه، وألقى السمع، وأحضر قلبه، ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب ملق السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة.

     يظهر من ذلك أن «أو» في الآية (أو يذكر) لم يرد على المعنى الواو؛ لأن المطلوب في الآية: التزكية، والتذكر، والغالب تحصيلهما معاً؛ لكون كل منهما مستلزم للآخر وسبب له، لكن مع ذلك فقد يحصل أحدهما دون الآخر أحياناً بحسب حال العبد - والله تعالى - أعلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك