رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د/ وليد بن محمد بن عبدالله العلي 21 أغسطس، 2010 0 تعليق

الروض الأنيق في الفوائد المستنبطة من قصة يوسف الصديق (12)

 

 

الفائدة الرابعة والسبعون:

جزاء المسيء بمثل إساءته في جميع الملل، مستحسن في جميع العقول؛ ولهذا كاد سبحانه ليوسف حين أظهر لإخوته ما أبطن خلافه؛ جزاء لهم على كيدهم له مع أبيه؛ حيث أظهروا له أمرا وأبطنوا خلافه، فكان هذا من أعدل الكيد؛ فإن إخوته فعلوا به ذلك حتى فرقوا بينه وبين أبيه، وادعوا أن الذئب أكله. ففرق بينهم وبين أخيهم بإظهار أنه سرق الصواع، ولم يكن ظالما لهم بذلك الكيد؛ حيث كان مقابلة ومجازاة، ولم يكن أيضا ظالما لأخيه الذي لم يكده، بل كان إحسانا إليه وإكراما له في الباطن، وإن كانت طريق ذلك مستهجنة، لكن لما ظهر بالآخرة براءته ونزاهته مما قذفه به، وكان ذلك سببا في اتصاله بيوسف واختصاصه به، لم يكن في ذلك ضرر عليه.

يبقى أن يقال: وقد تضمن هذا الكيد إيذاء أبيه، وتعريضه لألم الحزن على حزنه السابق، فأي مصلحة كانت ليعقوب في ذلك؟

فيقال: هذا من امتحان الله تعالى له، ويوسف إنما فعل ذلك بالوحي، والله تعالى لما أراد كرامته، كمل له مرتبة المحنة والبلوى ليصبر؛ فينال الدرجة التي لا يصل إليها إلا على حسب الابتلاء، ولو لم يكن في ذلك إلا تكميل فرحه وسروره باجتماع شمله بحبيبه بعد الفراق.

وهذا من كمال إحسان الرب تعالى أن يذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة الجبر، ويعرفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بضدها، كما أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يكمل لآدم نعيم الجنة أذاقه مرارة خروجه منها، ومقاساة هذه الدار الممزوج رخاؤها بشدتها؛ فما كسر عبده المؤمن إلا ليجبره، ولا منعه إلا ليعطيه، ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا نغص عليه الدنيا إلا ليرغبه في الآخرة، ولا ابتلاه بجفاء الناس إلا ليرده عليه (مختصر الصواعق المرسلة 2/290-291).

 

الجزء الرابع والعشرون

الفوائد المستنبطة من قول الله تعالى: {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون} (يوسف: 77).

 

الفائدة الخامسة والسبعون:

أما قياس الشبه: فلم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين، فمنه: قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}، فلم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليلها، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع، سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف، فقالوا: هذا مقيس على أخيه؛ بينهما شبه من وجوه عديدة، وذاك قد سرق؛ فكذلك هذا.

وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ، والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي، وهو قياس فاسد، والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كانت حقا، ولا دليل على التساوي فيها؛ فيكون الجمع لنوع شبه خاليا عن العلة ودليلها (إعلام الموقعين 1/148).

 

الفائدة السادسة والسبعون:

حكى الله سبحانه عن يوسف الصديق أنه قال لإخوته: {أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون}، لما قالوا: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم}.

وذلك للمصلحة التي اقتضت كتمان الحال (إعلان الموقعين 1/330).

 

الفائدة السابعة والسبعون:

الفوائد المستنبطة من قول الله تعالى: {قالوا يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون} (يوسف: 78-79).

قال يوسف عليه السلام لما عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم: {معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده}.

ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق؛ فإن المتاع كان موجودا عنده، ولم يكن سارقا، وهذا من أحسن المعاريض.

وقد قال نصر بن حاجب: سئل سفيان بن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله، ويحرف القول فيه ليرضيه، أيأثم في ذلك؟ فقال: ألم تسمع قوله عليه السلام: «ليس بكاذب من أصلح بين الناس فكذب فيه».

فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم، كان خيرا من أن يصلح بين الناس بعضهم في بعض؛ وذلك أنه أراد به مرضاة الله، وكراهية أذى المؤمن، ويندم على ما كان منه، ويدفع شره عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم، ولا طمعا في شيء يصيبه منهم؛ فإنه لم يرخص في ذلك، ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم.

قال حذيفة بن اليمان ]: «إني أشتري ديني بعضه ببعض؛ مخافة أن أقدم على ما هو أعظم منه».

قال سفيان: «وقال الملكان: {خصمان بغى بعضنا على بعض}، أرادا معنى «شيءٍ»، ولم يكونا خصمين؛ فلم يصيرا بذلك كاذبين.

وقال إبراهيم عليه السلام: {إني سقيم}. وقال: {بل فعله كبيرهم هذا}.

وقال يوسف عليه السلام: {إنكم لسارقون} أراد معنى «أخاهم».

فبين سفيان -رحمه الله تعالى- أن هذا كله من المعاريض المباحة، مع تسميته كذبا، وإن لم يكن في الحقيقة كذبا (إغاثة اللهفان 2/150-152).

 

الفائدة الثامنة والسبعون:

الفائدة المستنبطة من قول الله تعالى: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون} (يوسف: 82).

إنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة؛ كما إذا قيل: أكلت الشاة؛ فإن المفهوم من ذلك: أكلت لحمها، فحذف المضاف لا يُلبس، وكذلك إذا قلت: أكل فلان كدّ فلان، إذا أكل ماله؛ فإن المفهوم: أكل ثمرة كده، فحذف المضاف هنا لا يلبس، ونظائره كثيرة.

وليس منه: {واسأل القرية}، وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به؛ فإن القرية: اسم للسكان في مسكن مجتمع، فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين؛ كالكأس: لما فيه من الشراب، والذنوب: للدلو الملآن ماء، والخوان: للمائدة إذا كان عليها طعام، ونظائره.

ثم إنهم لكثرة استعمالهم لهذه اللفظة ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة، وعلى المسكن تارة، بحسب سياق الكلام وبساطه، وإنما يفعلون هذا حيث لا لبس فيه؛ فلا إضمار في ذلك ولا حذف، فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه (بدائع الفوائد 3/22-23).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك