الرفق والأناة من أسباب القرارات الناجحة
عندما تعرض عليك مسألة مصيرية وموقفك فيها مهم جدًا، فمن حقك أن تدرسها وتشاور من تثق في رأيه، وتستخير وتبحث عن الحكم الشرعي فيها، والمصلحة والمفسدة من ورائها، وتحاول أن تخرج في النهاية برأي سديد وصائب.
وفي مثل هذه الحالات عليك بالأناة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ» رواه البيهقي، وقال ابن القيم: إسناده جيد، كذلك عليك بالرفق، قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» رواه مسلم، وبالأناة يكون الظفر وإدراك النجاح، كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ بن أبي سفيان -رضي الله عنهم - فِي الْأَنَاةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ التَّفَهُّمَ فِي الْخَيْرِ زِيَادَةٌ وَرُشْدٌ، وَإِنَّ الرَّشِيدَ مَنْ رَشَدَ عَنِ الْعَجَلَةِ، وَإِنَّ الْخَائِبَ مَنْ خَابَ عَنِ الْأَنَاةِ، وَإِنَّ الْمُتَثَبِّتَ مُصِيبٌ، أَوْ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا، وَإِنَّ الْمُعَجِّلَ مُخْطِئٌ، أَوْ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا، وَإِنَّهُ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ الرِّفْقُ يَضُرُّهُ الْخَرَقُ وَمَنْ لَا تَنْفَعُهُ التَّجَارِبُ لَا يُدْرِكُ الْمَعَالِيَ، وَلَنْ يَبْلُغَ الرَّجُلُ مَبْلَغَ الرَّأْيِ حَتَّى يَغْلِبَ حِلْمُهُ جَهْلَهُ وَشَهْوَتَهُ»، قال حبيش بن زهير: «عليك بالأناة؛ فإن بها تنال الفرصة»، وأوصى مالك بن المنذر بنيه قائلاً: «يا بنيَّ، الزموا الأناة، واغتنموا الفرصة؛ تظفروا»، ألا ترون أن الماء على لينه يقطع الحجر على شدّته!
الأناة سجية قد يطبع المرء عليها، وتلك من أجل نعم المولى عليه، لكنّ العجلة هي الحال الغالب على الناس، كما قال الله -تعالى-: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37)، ومع ذلك؛ فإن في الإمكان تغييرَ تلك الطبيعة المستهجنة بالمراس والمجاهدة وسلوك أسباب التغيير.
ومن أنفع تلك الأسباب تبصر العواقب واستشراف أواخر الأمور وما تؤول إليه دون اغترار ببريق مباديها؛ فالْعَاقِل من افْتتح فِي كل أَمرٍ خاتمته، وَعلم من بَدْء كل شَيْء عاقبته، وبقدر ذلك التبصر يبلغ التأني.
وفي اتهام المرء رأيَه وعدمِ جزمه بصوابه كبحٌ لجماح العجلة، وإلجامٌ لنفسه بحَكَمَة الأناة، وذاك منهج غالب في تعامل الصحابة - رضي الله عنهم - مع آرائهم. يقول ابن القيم - رحمه الله -: «واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور، وهم أبرُّ الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأبعدها من الشيطان؛ فكانوا أتبعَ الأمة للسنة، وأشدَّهم اتهاماً لآرائهم» أهـ. وفي استشارة ذوي الرأي استتمام الأناة ولاسيما إن كانوا مجربين؛ ولذا غلب رأيُ الأشياخ مشهدَ الشباب.
قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه -: «ما نزلت بي قطّ عظيمةٌ فأبرمتها حتى أشاور عشرةً من قريش مرتين، فإن أصبت كان الحظّ لي دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة».
ومن خير ما تستجلب به الأناة الانعتاق من ربقة ضغط اللحظة الحاضرة والاستغراق فيها؛ فإنها أقوى حاملٍ على العجلة، كالغضب، والفرح، والخوف، والطمع، واليأس، والاستفزاز، وتأثير الجماهير، وابتغاء تسجيل موقف مع كل حدث. وذلك يستلزم صون المنطق بالصمت وقتها، وترك اتخاذ القرار، واعتزال موضع تَهَيُّجِها ريثما تَسْكُنُ المثيرات ويُستجمع الفكر. يقول الرسولصلى الله عليه وسلم : «إذا غضبت فاسكت «رواه ابن شاهين وحسنه الألباني، قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: «كَانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاقِبَ رَجُلاً، حَبَسَهُ ثَلاَثاً، ثُمَّ عَاقَبَهُ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَعْجَلَ فِي أَوَّلِ غَضَبِهِ».
إن يُمن الأناة يستدعي تبصرها في كل أمر؛ إذ هو الأصل في مباشرة الأمور ولاسيما ما عمّ أثره ولم يُقصر على صاحبه؛ فخطأ الأناة خير من خطأ العجلة. ولا يستثنى من ذلك إلا ما استبان خيره كالأعمال الصالحة القاصرة. يقول النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم -: «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ» رواه أبو داود وقال حكيم: «الْعَجَلَةُ فِي الْأَمْرِ خَرَقٌ، وَأَخْرَقُ مِنْ ذَلِكَ التَّفْرِيطُ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ». وأسوأ من ذلك، أن تُتَّخَذَ الأناةُ والحكمةُ غطاءً لتسويغ العجز والخور وترك العمل؛ ففرقُ ما بين انتظار الأناة والعجز تحققُ الهمّ الصادق للعمل والبحث عن فرصه.
إليك قاعدة النجاح التي أوصى بها أحد الحكماء؛ إذ يقول: «روِّ بحزم، فإذا استوضحت فاعزم».
لاتوجد تعليقات