رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.أحمد الجسار 16 ديسمبر، 2020 0 تعليق

الرزق بيد اللهِ وحدَهُ والعبدُ مأمورٌ ببذلِ الأسبابِ المشروعةِ لتحصيله

 قال الله -تعالى-: {وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (الذاريات 22ـــ 23). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ روحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي أنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكملَ أجَلَها، وتستوعبَ رزقَها، فاتقوا اللهَ وأجمِلوا في الطلب، ولا يَحْمِلَنَّ أحدَكُمُ استبطاءُ الرزقِ أن يطلبَه بمعصية الله، فإنَّ اللهَ -تعالى- لا يُنالُ ما عندَه إلا بطاعتِه» (رواه أبو نعيم - صحيح الجامع 2085).

     ولقد قرر الإسلامُ هذا الأمر، أنَّ الرزقَ بيد اللهِ وحدَهُ -سبحانه-، وأما العبدُ فهو مأمورٌ ببذلِ الأسبابِ الصحيحةِ المشروعةِ لطلبِ الرزق؛ فإنَّ ما عند الله لا يُنالُ بمعصيته؛ ولذلك فقد نهى اللهُ عن اتخاذِ الوسائلِ المحرمةِ في الكسب، ومن ذلك: الربا، والميسر، والرِّشوة، والغِشُّ في البيع والشراء، وغيرُ ذلك من وسائل الكسبِ المحرم.

آكلُ المالِ بالباطلِ

     وآكلُ المالِ بالباطلِ على خطرٍ عظيم -والعياذُ بالله-، فقد قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، وذاك في الآخرة، أما في الدنيا فمن كانت هَمَّهُ، فطلبها بكل وسيلة مهما كانت محرمة، فقد قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ، وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ» (رواه الترمذي وابنُ ماجه).

فبما أنَّ الرزقَ مقسومٌ، ومُقدَّرٌ محسوم، فلماذا يُطلبُ بالوسائلِ المحرمة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ» (رواه البخاري). فتخيروا من الكسب الحلال يُباركْ لكم فيه.

الرزق بيد الله

     إننا نؤمن بأن الرزق بيد الله، وعنده، ومنه -جل في علاه-، فالله وحده هو الذي بيده خزائنُ السماواتِ والأرض، يُوَسِّعُ على هذا، ويَقْدِرُ على ذاك، يعطى هذا، ويمنعُ ذاك، كل ذلك وَفْقَ فضله وحكمته، فإن أعطى فبفضله، وإن منع فبحكمته، وكل ذلك برحمته، وكل شيء بيده، ولو وَكَلَنَا إلى أنفسنا لَهَلَكْنا.

فمن الذي يرزقنا ويرزق كلَّ هذه الدواب؟ مما نراه، وما لا نراه؟ أليس هو الله -جل في علاه؟

     هو الذي جعل على نفسه رزقَها وهو أرحم الراحمين: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (هود 6)، وقال -تعالى-: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (النمل 64)، وقال -تعالى-: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس31)، وقال -تعالى-: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (فاطر 2-3).

فإذا اللهُ أعطى، فمن ذا الذي يمنع؟ وإن منع اللهُ، فمن ذا الذي يرزق؟ {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} (الملك 21).

طلب الرزق بالتقوى

     فاتقوا الله ولا يَحْمِلَنَّ أحدَكُمُ استبطاءُ الرزقِ أن يطلبَه بمعصية الله، فاجتنبوا الربا، والرِّشوةَ، وكلَّ مالٍ محرم، وأطيبوا مَطْعَمَكم، واعلموا أن الرزق بيد الله، يرزق جميع خلقه ويرزقنا، مُذ كنا أجنةً في بطون أمهاتنا، يحيينا بفضله، ويحفظُنا ويرزقُنا برحمته، ويميتُنا بِقَضائه وحكمته، ثم يبعثُنا بقدرته، فلماذا يُطلبُ شيءٌ من هذه الدنيا بغير رضاه -جل في علاه؟

علقوا القلوب بالله

وعلقوا القلوب به -سبحانه-، واطلبوا الرزق بطاعة الله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك 15). فلا تنسَ، وأنت تسعى في هذه الدنيا، أنك ماثلٌ يومًا بين يدي ربك، فمعروضةٌ عليك كلُّ أعمالك.

 

 

 ابن عثيمين: مشاهد يوم القيامة

 

في سياق الوعظ والإرشاد والنصيحة تفضل سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- بتقديم هذه الموعظة البليغة لعموم المسلمين فقال –رحمه الله-:

     اتقوا الله -تعالى- وفكروا في دنياكم وآخرتكم، في حياتكم وموتكم، في حاضركم ومستقبلكم، فكروا في هذه الدنيا فيمن مضى من السابقين الأولين؛ ففيهم عبرة لمن اعتبر؛ إذ عمَّروا في هذه الدنيا فعمروها وكانوا أكثر منا أموالا وأولادا، وأشد منا قوة وتعميرا، فذهبت بهم الأيام، كأن لم يكونوا، وأصبحوا خبرا من الأخبار، ذهبوا عن الدنيا إلى دار الجزاء، وسوف ننتقل عن هذه الدنيا مثلهم. إننا سائرون على ما ساروا عليه، وصائرون لما صاروا إليه، وسننتقل من القصور إلى القبور، بعد الاجتماع بالأهل والسرور، سوف ننفرد بأعمالنا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر إلى يوم النشور، وحين ذلك ينفخ في الصور، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، حفاة بلا نعال، وعراة بلا ثياب، وغرلا بلا ختان، حدّث النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث فقالت عائشة : «يا رسول الله، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض». وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن الأمر أشد من أن ينظر الرجال إلى النساء أو أن تنظر النساء إلى الرجال، إن الأمر أعظم من أن تسأل الأم عن ولدها والابن عن أبيه {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} {المؤمنون:101) {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}(الحج:1) {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (الحج:2). ففي ذلك اليوم قلوب واجفة، وأبصار خاشعة، هنالك تفرق الدواوين وهي صحائف الأعمال، فيأخذ المؤمن كتابه بيمينه، ويأخذ الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه} (الحاقة:19) فيقول فرحا مسرورا: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ}  (الحاقة:19) {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} (الحاقة:25) فيقول محزونا ومغموما: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} (الحاقة:25) و{يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا} (الانشقاق:11)، ثم توضع الموازين، فتوزن فيها أعمال العباد من خير وشر {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة:7-8) يقول الله -عز وجل-: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الانبياء:47).

     في ذلك اليوم العظيم يموج الناس بعضهم في بعض، ويلحقهم من الهم والكرب ما لا يطيقون؛ فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى -عليهم الصلاة والسلام-، وكل هؤلاء يقدم عذرا، ثم يأتون إلى عيسى - عليه السلام -، فيقول لست لها، ولكن ائْتُوا محمدا، عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول - صلى الله عليه وسلم - مفتخرا بنعمة الله أنا لها، فيستأذن من ربه -عز وجل- ويخر له ساجدا، ويفتح الله عليه من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد من قبله، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، وفي ذلك اليوم ينزل الجبار الحكم العدل للقضاء بين عباده وحسابهم، فيخلو بعبده المؤمن وحده، ويضع عليه ستره، ويكلمه ليس بينه وبينه ترجمان، فيخبره بما عمل من ذنوبه حتى يقر العبد ويعترف، فيظهر الله عليه فضله، فيقول الله -عز وجل- قد سترتها لك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. اللهم كما سترت ذنوبنا عن عبادك فاغفرها لنا يوم أن نلقاك يا رب العالمين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك