رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 17 أبريل، 2023 0 تعليق

الرد على دعوى معاداة الإسلام لمخالفيه وتعصبه ضد العقائد الأخرى (3)

                   

ما زال حديثنا مستمرا عن ادعاء بعض المغالطين أن الإسلام دين يعادي الملل والعقائد الأخرى، ويدعو إلى التعصب، والانتقام من مخالفيه، ويستدلون على هذا بتصنيف الناس إلى مسلمين وكفار، في إشارة إلى رفض الآخر ورفض التعايش معه وإهانته، ويرون أن الإسلام قد عامل الذميين بقسوة واضطهاد، وسلب حريتهم وأرهقهم بضرائب كبيرة يسميها المسلمون الجزية، وفي هذا المقال نرد على هذه الشبهة بالأدلة والبراهين، وكنا قد تكلمنا في الحلقة الماضية عن ضوابط الحرب في الإسلام وأنها بمعزل عن التعدي والهمجية، واليوم نتكلم عن دستور العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين.

الدستور الأساسي

     وضع القرآن قاعدة، تعد الدستور الأساسي في معاملة المسلمين لغيرهم من الناس فقال: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} (الممتحنة: 9)، فالآية واضحة تماما في تقرير العلاقة بين المسلمين وغيرهم، إنها علاقة قائمة على أمر أعظم من العدل - الذي هو إعطاء كل ذي حق حقه - وإنما ترتقي هذه العلاقة إلى مرحلة الإحسان - وهو الزيادة على الحق فضلا - ولقد قدمت الآية لفظ البر على لفظ القسط - وهو العدل - وهي إشارة رائعة إلى كيفية معاملة غير المسلمين، إنها علاقة قائمة على البر والإحسان.

أهل الذمة

     والشيء اللافت أن الإسلام سمى غير المسلمين داخل مجتمعه (أهل الذمة)؛ أي: أهل العهد والضمان والأمان؛ لأن لهم عهد الله وضمان رسوله وأمان جماعة المسلمين، على أن يعيشوا في حماية الإسلام وتحت راية المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، ولكن العجب من بعض الناس أنهم يعدون هذه التسمية تسمية فيها شيء من الدونية، وهذا كلام مرفوض، فمن يفهم كلمة العربي حين يقول: (أنت في ذمتي) يعي تماما ما معنى أهل الذمة، أي: أنت في حمايتي ورعايتي وكنفي، لا أوذيك ولا أسمح لأحد بأذيتك، ويمكن استبدال هذه الكلمة -حاليا- فيما يسمى بالعرف السياسي باسم (حاملي الجنسية الإسلامية) فهؤلاء في الحقيقة مواطنون كبقية أفراد المجتمع المسلم.

العلاقة بين المسلمين وغيرهم

     وقد وضع فقهاء الشريعة الإسلامية قاعدة لتوضيح العلاقة بين المسلمين وغيرهم داخل المجتمع، وهذه القاعدة قائمة على المعاملة بالمثل، وقد قيل قديما: من عاملك كنفسه لم يظلمك، وهذه القاعدة هي (لهم مالنا، وعليهم ما علينا)، وتفسيرها ليس على إطلاقها، وإنما، لهم ما لنا من الحقوق والحريات، وعليهم بعض الذي علينا من الواجبات، وقد فسرت هذه القاعدة من خلال النقاط التالية:

(1)  تأمين الحماية من العدوان الخارجي

     حيث يوجب المجتمع الإسلامي أن تؤمن كل ضوابط الحماية لكل من رضى العيش بداخله، وهذا ما صرح به الفقهاء في إرشاداتهم، يقول ابن حزم الأندلسي: «إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك؛ صونا لمن هو في ذمة الله -عز وجل- وذمة رسوله، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، ولعل أروع الأمثلة على ذلك في التاريخ موقف القائد أبي عبيدة بن الجراح ] من أهل حمص وغيرهم، حينما رد عليهم أموالهم التي دفعوها مقابل حمايتهم من الاعتداء الخارجى؛ بسبب عجزهم عن ذلك، فقالوا: ردكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا بل غصبونا، وهذا ابن تيمية يقف بعنف في وجه التتار عندما أرادوا إطلاق سراح أسرى المسلمين فقط، وإبقاء النصارى بالأسر فقال: إنا لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسرى من المسلمين وغيرهم، لأنهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرا لا من أهل الذمة، ولا من أهل الملة.

(2) تأمين الحماية الداخلية

وتشتمل هذه الحماية على ما يلى:

حماية الدماء والأبدان

     فقد تضافرت الأحاديث النبوية وسلوك الصحابة على تحريم إلحاق أي أذى أو ظلم بأي إنسان، مواطنا كان أو زائرا غير مسلم فهو في ذمة المسلمين وعهدهم، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»، وكان علماء المسلمين يوصون الأمراء والخلفاء بحسن معاملة غير المسلمين والإحسان إليهم، فهذا القاضي أبو يوسف يكتب إلى الرشيد قائلا: «... وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك؛ حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم»، ومن أمثلة التاريخ أيضا وقوف الإمام الأوزاعي في وجه الوالي العباسي صالح بن على عندما أساء إلى بعض أهل الذمة، كل ذلك شاهد لحماية غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.

حماية الأعراض

     حماية الأعراض؛ فلا يجوز في الإسلام إلحاق أي أذى بالمسلم، أو غير المسلم، من شتم أو قذف أو تجريح أو حتى غيبة، يقول فقهاء الحنفية: ويجب كف الأذى عنه (أي: الذمي) وتحرم غيبته كالمسلم. ويقول فقهاء المالكية: «إن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا لهم... فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله».

حماية الأموال

     حماية الأموال، وهي مشابهة لحماية الدماء والأعراض، وكان من ضمن المعاهدة التي وقعها النبي مع نصارى نجران قوله: «ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير».

الحماية لكل ممتلكات غير المسلمين

     والواقع التطبيقي لأحكام الشريعة يظهر بوضوح هذه الحماية لكل ممتلكات غير المسلمين، فلهم الحق في دخول كل المعاملات الاقتصادية وممارسة كل الصفقات وما سوى ذلك من مظاهر الحرية الاقتصادية، والتملك، كفالة بيت المال، فالمجتمع الإسلامي يكفل للمسلم وغيره كل الاحتياجات، ولا سيما عند العجز عن الكسب والعمل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع.... وكلكم مسؤول عن رعيته».

      والأمثلة على ذلك كثيرة، فأهل الذمة هم من أولى الناس مع المسلمين بالبر والصلة، وكانت ضمانات المجتمع المسلم واضحة ضد الفقر والعجز والشيخوخة لكل فئات المجتمع، لا تفريق بين مسلم وغيره، فهذا صلح خالد بن الوليد -  رضي الله عنه - مع أهل الحيرة جاء فيه: «وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام»، وقد أقر الخليفة الصديق -  رضي الله عنه - خالدا -  رضي الله عنه - على ذلك، وقد قيل: إن مساعدة الذمي من بيت مال المسلمين - حال عجزه - أمر قد أجمعت عليه الأمة.

(3) الحريات العامة

وتشتمل هذه الحريات على ما يلى:

     حرية المعتقد وممارسة الشعائر وصون أماكن العبادة، وقد أقر الإسلام - بوضوح تام - حرية الاعتقاد لكل الناس، فلا إكراه لأحد على دخول الإسلام وإن كان يدعوهم إليه، والدعوة إلى دخول الإسلام والإجبار عليه أمران متضادان: الأول جائز مشروع، والثاني حرام ممنوع بقوله -عز وجل-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} (125: النحل) وقوله: {لا إكراه في الدين} (البقرة: 256) والقاعدة في ذلك هي قول الإمام على كرم الله وجهه: «نتركهم وما يدينون».

      والشواهد التاريخية على هذا كثيرة، من زمن النبي إلى عصرنا الحاضر؛ فقد جاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يهود المدينة «... لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم». وفي عهده - أيضا - لأهل نجران «... ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دنية».

      وقد حفظ الإسلام رجال الدين من أهل الكتاب من سطوة الحروب، فقد جاء في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع»، وفي خطبة الصديق إلى جيوشه لتحرير العراق والشام جاء قوله: «وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له».

عهد الفاروق -  رضي الله عنه 

     وجاء في عهد الفاروق -  رضي الله عنه - إلى أهل القدس ضمانة واضحة لحريتهم الدينية وحرمة معابدهم وشعائرهم ما نصه: «هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم».

تسامح الإسلام الرفيع

     ومن أبلغ الأمثلة على تسامح الإسلام الرفيع سماح النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد نصارى نجران - وكانوا ستين شخصا - أن يدخلوا مسجده وأن يجلسوا فيه بضعة أيام، فإذا حضرت صلاتهم قاموا متوجهين إلى الشرق على مرأى ومسمع من رسول الله دون اعتراض منه أو منع.

     والحق الذي يجب الصدع به أن أعظم الشواهد الواقعية على حرية المعتقد في الإسلام، هو ما يرى الآن، وبعد فترة حكم دامت أربعة عشر قرنا، من أماكن العبادة: فالكنائس والمعابد والأديرة منتشرة في كل مكان من بقاع العالم الإسلامي شرقا وغربا، وهي شواهد تنطق بحرية المعتقد التي جاء بها الإسلام، فلو أن المسلمين كانوا كغيرهم من أتباع الملل والنحل، لما شوهد برج كنيسة واحد ولما سمع صوت ناقوس، على حين أن الآخرين كانوا يستأصلون شأفة المسلمين في ديارهم فما الأندلس منا ببعيد، وما البوسنة والهرسك عنا بغائبة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك