الربح والخسارة
تتقلب الحياة بين ربح وخسارة، ويسعى الإنسان للنأي بنفسه عنها، ليحقق فوزا في شؤون حياته. يفرح الإنسان للربح ويزهو، ويحزن للخسارة؛ ذلك ذلك أن مذاقها مر، أليم مآلها، وبعض الناس إذا لحقت بهم خسارة دنيوية شقوا الجيوب، ولطموا الخدود، ودعوا بدعوى الجاهلية.
لكن الخسارة الحقيقية ليست خسارة الدنيا، المال والمنصب أو الوظيفة أو التجارة، الخسارة الحقيقية هي خسارة الباقية الآجلة، ومتاع الدنيا ليس مقياسا للربح والخسارة؛ فكم من رابح في الدنيا خاسر يوم القيامة! قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الزمر: 15).
الربح والخسارة في ميزان العقلاء هو ربح الإيمان والفوز بالآخرة، قد حكم الله -تعالى- على الإنسان بأنه خاسر أبدا خسارة عمره ومآله مهما جمع وحوى، وحاز واستولى، قال -تعالى-: {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (العصر: 1، 2)، ثم استثنى -سبحانه وتعالى-: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 3)، أي إلا الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بعمل الصالحات، وتجملوا بالصبر، والتزموا طريق الحق فهم الفائزون.
وأعظم الخسارة خسارة الدين، في كل خسارة في هذه الدنيا تهون إلا خسارة الدين؛ لأن المصيبة في الدين توجب لصاحبها الهلاك في الآخرة.
خسارة الدين تكون باعتقاد شبهة أو شهوة، أو بتضييع أركانه وتمييع أحكامه، أو بأن يسخره الإنسان لخدمة دنياه وبلوغ مصالحه. ومن ضيع العمل وأهمل في تحصيله خف يوم العرض ميزانه، ونقصت أعماله، فترجح كفة السيئات، وتطيش كفة الحسنات، ويغدو من الخاسرين، قال الله -تعالى-: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} (الأعراف: 8، 9).
ومن سمات الخاسرين: إخلاف الوعد، ونقض العهد، وإبطال الميثاق، والإفساد في الأرض ببث الشبهات وإثارة الشهوات ورعايتها، قال الله -تعالى-: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (البقرة: 27).
طاعة الكافرين وموالاتهم علامة الخسران، والقرآن يحذرنا من سوء العاقبة والمآل، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (آل عمران: 149).
ومن سمات الخاسرين: أن عبادتهم تدور مع المصلحة الدنيوية، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَانَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالآخرةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} (الحج: 11).
فمن ألهته أمواله، وشغله أولاده، وضيع -بسبب ذلك- العبادة والطاعة ظنا منه أن ذلك سبيل الربح فهو واهم مغرور، يخيل إليه أن هذا سبيل المتاع والأمن والنعمة، وما علم المسكين أنه لطريق الخسارة سالك.
ومن قتل أخاه ظلما وعدوانا فهو خاسر، وإن عاش منعما مستمتعا بنعيم الدنيا، قال الله -تعالى-: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة: 30).
ومن اتخذ الشيطان وليا، يحكمه في ليله ونهاره، وقوله وفعله، وماله ومآله، فهو خاسر، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا } (النساء: 119). والأنبياء المصلحون يبصرون مواطن الخسارة فيحذرونها ويحذرون منها، وأبرزها: المعصية التي تفضي إلى زيادة تخسير، قال الله -تعالى- على لسان هود -عليه السلام-: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} (هود: 63). ومن سمات الخاسرين: الأمن من مكر الله! قال الله -تعالى-: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (الأعراف: 99). ومن أنواع الخسارة وأليم الحسرة: إفلاس رصيد الطاعات بعد أن عمل المسلم أعمالا كثيرة في وجوه البر، وتزداد الحسرة حين يعجز الرصيد عن القضاء، فيكون التسديد بتحمل سيئات العباد، فيخرج من الدنيا حزينا على ما قدم من إساءة، وهناك لا مجال لتعويض الخسارة، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم.
ومن كذب بلقاء الله ولم يعمل له، وقصر أمله في الحياة الدنيا، وخدع نفسه فهو خاسر، قال الله -تعالى-: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} (الأنعام: 31). والخسارة التي تبكي العيون، وتحزن النفوس موت القلب وقسوته، فلا يتأثر بالقرآن، ولا يخشع لآياته، ولا يستجيب للمواعظ، {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف: 179). ومن الخسارة: هجر القرآن وهجر تلاوته، قال الله -تعالى-: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30). ومن الخسارة: تضييع الصلوات وتأخيرها، والنوم عن صلاة الفجر وأداؤها بعد حر الشمس خسارة، وتفويت للفوز العظيم والربح الكبير، وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه»، أو قال: «في أذنه».
وضياع الوقت من أنواع الخسارة، والوقت لا يخلفه شيء، وإذا انقضى لا يرجع ولا يعود، والعاقل يتأمل سرعة انقضاء الأوقات، ويعرف كم ربح فيها وكم خسر؟ حتى لا يفاجأ بالعمر قد ضاع وخسر معه كل نفيس.
وقد تلحق الخسارة الأمة جمعاء، {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} (الطلاق: 8، 9).
الأمة التي تنحرف عن منهج الله، وتخالف أمره، وتستفحل فيها الذنوب والمعاصي، وتتمرد على هدي الله ورسله تكون عاقبة أمرها ندما ومحنا وفقرا وجورا وحياة مفزعة، لا أمن فيها ولا استقرار، وتلك سنة الله في خلقه.
لاتوجد تعليقات