الدعوة الإسلامية وثورات الربيع العربي والمخاض العسير
انخراط القوى الإسلامية في الصراعات السياسية أفقدها الاهتمام بالذراع الدعوية وألحق بها خسائر فادحة
- الإسلاميون وقعوا في خطأ استراتيجي بالتركيز على المسار السياسي وتجاهل قواعدهم الشعبية
- الهجمات على مقرات الإسلاميين في ليبيا وتونس ومصر تأكيد على انهيار الظهير الشعبي لها
- الحملة على الإسلاميين أضرت بالمشروع الإسلامي، وإغلاق القنوات الفضائية سددت ضربة قاتلة للدعوة
- سعي رموز الدعوة الإسلامية لأداء دور سياسي وضع مصداقيتهم على المحك، وحرمهم من نجاحات زمن الحصار
- القوى المشبوهة والفرق الضالة استغلت أزمات الربيع العربي لنفث سمومها وتذويب الهوية
- خلافات الإسلاميين سهلت مهمة خصومهم، واعتزال السياسة مؤقتًا وإعادة الشأن للدعوة سبل العودة للمسار الصحيح
كان الجميع يعتقد أن اشتعال ثورات الربيع العربي وما تلاها من تهاوي أنظمة علمانية سيكون له تداعيات إيجابية على الدعوة الإسلامية، ولاسيما أن الأنظمة التي تهاوت تباعًا في تونس وليبيا ومصر كانت تفرض قيودًا مشددة على التيارات الإسلامية وتعقيدات على الدعوة الإسلامية حتى داخل المساجد الأهلية والتابعة للدولة على حد سواء، فضلاً عن التضييق بشدة على رموز الدعوة لدرجة أجبرت العديد منهم سواء في مصر أم في تونس أم في ليبيا على الخروج من البلاد، فضلاً عن التأميم الكامل للمساجد؛ مما جعل الدعوة تواجه مخاضًا صعبًا، وتتراجع كثيرا في إطار تبني الأجهزة الأمنية إجراءات مشددة في إطار سعيها لتجفيف منابع الدعوة والقضاء على أي تأثير للحركات الإسلامية إلا من تسير في ركاب السلطة.
انفراجة مؤقتة
ولكن المتتبع لمسار الدعوة الإسلامية في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي يشعر أنها اتخذت أبعادًا سلبية جدًا رغم أنها استفادت في المرحلة التي سبقت العام 2011 من حالة انفراجة إعلامية تمثلت في انطلاق عشرات من القنوات الفضائية، أسهمت في تحقيق طفرة ملحوظة في هذا المجال في ظل مناخ الحرية الذي أتاحه سقوط هذه الأنظمة؛ من حيث رفع القيود عن تحركات العلماء والدعاة، وفتح أبواب المساجد الكبرى لهم التي كانت حكرًا لسنوات طويلة على مجموعات منتقاة معروفة بولائها للأجهزة الأمنية، بل صارت الندوات والمؤتمرات الدعوية من أهم المعالم التي سادت هذه الفترة وكأنها كانت موجة أخذت وقتها وانتهت.
صراع سياسي
ومن أسف أن هذه المرحلة لم تدم طويلاً؛ إذ انغمست القوى التقليدية في مصر مثل الإخوان المسلمين والتيار السلفي والجماعة الإسلامية والنهضة والسلفيين في تونس وحركات إسلامية مختلفة في ليبيا في الصراع السياسي، وشرعت في بناء أحزاب سياسية وتأسيسها وتجهيز نفسها للانتخابات التشريعية والاستفتاءات والعمل على الإفراج عن الآلاف من أنصارها من المعتقلات الذين أمضى بعضهم أكثر من 30عامًا في أقبية الأنظمة وسجونها، بل وتصفية حسابات بين تيارات أخرى داخل الكيان الواحد كان لها تأثيرات كارثية على مسار الدعوة الإسلامية؛ حيث تحولت من مؤتمرات دعوية إلى مؤتمرات سياسية يسودها الصراعات والخلافات التي أسهمت في انفضاض الجماهير عن هذه الأحزاب.
بل إن الصراعات اشتعلت من داخل هذه الكيانات إلى حرب ثنائية؛ فالإخوان دخلوا في صراع مع السلفيين في مصر حول النفوذ السياسي وسط اتهامات بأخونة مؤسسات الدولة في مصر وهو ما تكرر في تونس؛ حيث شنت تيارات جهادية هجمات على مؤسسات للدولة في تونس وطالتها اتهامات باغتيال قياديين يساريين هما شكري بلعيد، ومحمد البراهمي؛ مما عمق من التوتر في تونس، وأسهم في تصاعد الضغوط على حزب النهضة بدرجة دفعته إلى تقديم حكومته برئاسة علي العريض لاستقالتها دون أن تشهد البلاد أي طفرة في العمل الدعوي، بل على العكس وجدنا ظواهر في مجتمعات الربيع العربي تحدث نكوصًا على الهوية الإسلامية رغم وجود الإسلاميين في السلطة.
حملات تشويه
الخطير في الأمر أن عددًا من رموز الدعوة الإسلامية التي كانوا يتمتعون بشعبية كبيرة إبان وجود الأنظمة السابقة قد تراجع وزنها جدا، بل طالتها اتهامات بمحاولة أداء دور سياسي يوازي وضعها الدعوي، ولكن هذا الأمر لم يتحقق من قريب أو بعيد؛ فلا هو استطاع أن يؤسس لدور سياسي، ولا هو استمر في مساره الدعوي، بل إن مصداقية الكثيرين صارت على المحك بعد انخراطهم في الصراع السياسي؛ مما أدى إلى انفضاض الأنصار عنهم، بل تم اتهامهم بأنهم يسعون للحفاظ على امتيازات من وراء دخولهم وسطاء في الأزمة.
بل إن الأمر زاد تفاقمًا؛ حيث فقدت الدعوة الإسلامية أحد أهم أذرعها عبر إغلاق عشرات من القنوات الفضائية الدينية، التي كان وجودها عاملاً مهمًا في تنامي الوعي الديني خلال السنوات الأخيرة، لكن هذه القنوات كانت قد تحولت خلال الفترة الأخيرة لأحد عناصر الأزمة؛ حيث تركز نشاطها على الصراع السياسي في مصر، وكأنها قد تحولت لقناة محلية رغم أنها كانت قد حققت انتشارًا لافتًا في دول المغرب العربي ومناطق عربية أخرى؛ حيث أغلقت هذه القنوات لاتهامها بالتحريض على العنف؛ حيث لم تنجح في توصيل رسالة سياسية، ولا استمرت في الحفاظ على دورها الدعوي، بل خرجت خالية الوفاض، وهناك شكوك في عودتها مرة أخري.
تخوين وتآمر
ولعل أبرز ما أصاب الدعوة الإسلامية من خسائر أنها تعرضت لحملة تشكيك كبيرة أفقدتها المصداقية في أوساط جماهيرها، بل إنها تعرضت لحملة إعلامية واسعة أسهمت في تشويه صورتها، وفتحت المجال واسعًا لاتهامات بالتخوين والتآمر على الوطن لصالح أجندات إقليمية وعالمية، بل إن الأمر وصل أن السنوات التالية لاشتعال ثورات الربيع العربي كرست نوعا من العزلة للتيار الإسلامي لم يواجهه منذ عقود، حتى إن مقر أحزاب الحرية والعدالة في مصر، والنهضة في تونس، والعدالة والبناء في ليبيا، قد تعرضت للاقتحام والإحراق لدرجة أن أعضائها غادروها وتخفوا في أماكن مجهولة خوفًا من ملاحقتهم، وهو ما تكرر مع فصائل إسلامية حملت مسؤولية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها هذه البلدان رغم أنها لم تتول الحكم إلا لأشهر قليلة، تعرضت خلالها لحملات تشويه جعلت تبحث عن سبل للإبقاء على حياة أعضائها وليس تفعيل دورها الدعوي.
ولم تتوقف الأزمة عند هذا؛ فالضربات التي تعرضت لها الدعوة الإسلامية سمحت لتيارات مشبوهة مثل التيار العلماني بنفث سمومه ضد الإسلام، بل وإهالة التراب على التراث الإسلامي وتوجيه اتهامات للصحابة والسلف الصالح دون أن تجد من يردعها أو يتصدى لها بفضل الحرب الضروس التي يتعرض لها التيار الإسلامي التي وصلت لحد استهداف رموز دعوية كانت تحظى بمصداقية كبيرة، بل وصلت لحد قيام فنانات ساقطات بادعاء أنهم من يملكون الحق الحصري في فهم الحديث عن الإسلام الصحيح، بل وصلت بإحداهن الجراءة لتؤكد شروعها في تأسيس فضائية للتعريف بالإسلام.
فرق ضالة
ولم تترك الفرق الضالة هذه الفرصة السانحة تمر بدون الاستفادة منها؛ حيث نمت وترعرعت مساعي المد الصفوي في العالم الإسلامي عبر التوسع في إنشاء الحسينيات ووجود حشد كبير لمناسبات بعينها للتأكيد على مدى الانتشار الذي حققته هذه الفرق الضالة المضللة في أغلب بلدان الربيع العربي، لدرجة أن مفتي ليبيا الصادق الغرياني أطلق صرخة تحذير من تنامي هذا المد الصفوي، مؤكدا أن نظام الملالي الإيراني يحاول الاستفادة من الفوضى المتصاعدة في بلدان الربيع لنشر سمومه واكتساب أرضية جديدة، مستغلاً ما تشهده بلدان الربيع العربي من فوضى وثورات مضادة لا هدف لها إلا طمث هوية هذه البلدان الإسلامية والحملة على عقيدة أهل السنة والجماعة.
أخطاء استراتيجية
وتؤكد مثل هذه النتائج شديدة السلبية أن هناك أخطاء وقعت فيها الحركات الإسلامية في كل من مصر وليبيا وتونس بعد نجاحها في إسقاط الأنظمة؛ فبدلاً من أن تركز على المسار الدعوي وتحاول توظيفه لاستعادة أرضيتها كاملا، وجدناها تركز على الصراع السياسي والدخول في مغالبات مع قوى علمانية وليبرالية معروفة بعدائها للتيار الإسلامي؛ مما جعلها تركز على الجانب السياسي وتحاول الاستحواذ على السلطة بطريقة أجبرها على تجاهل الجانب الدعوي، الذي تزامن مع حملات إعلامية من جانب التيار العلماني ركزت على أن القوى الإسلامية تستخدم الدين ستاراً لأطماعها السياسية.
وأعطت أخطاء الحركات الإسلامية للانخراط في السجال السياسي ودخولها في صراع بين أجنحتها المختلفة الفرصة للتيار المعادي للهوية الإسلامية، كما يؤكد السفير عبدالله الأشعل مساعد وزير الخارجية المصري السابق لتعيث فسادًا في الساحة وتعمل على تشويه الإسلاميين والنيل منهم، والوقوف حائلاً دون أن تحقق الدعوة الإسلامية النجاحات التي تليق بها؛ حيث أدركت هذه القوى أنه لا طائل من وراء مواجهة الإسلاميين في مواجهات مفتوحة فعمدت للتآمر من وراء الستار واستغلت سيطرتها على أجهزة الإعلام وصلاتها القوية مع مؤسسات الدولة العميقة لعرقلة تجربة الإسلاميين كما جرى في تونس ومصر وليبيا.
حملات مسمومة
وحمل الأشعل القوى الإسلامية جزءًا كبيرًا من المسؤولية عما آل إليه وضع الدعوة الإسلامية، فرهان هذه القوى على السيطرة والوصول للحكم شغلها عن التركيز على ذراعها الدعوي، رغم أن المجال الدعوي هو من حقق لهذه الجماعات الانتشار في أوساط الجماهير، وأمن لها قواعد شعبية أسهمت في اكتساحها لاستحقاقات انتخابية عديدة، مشددًا على أهمية أن تعيد التيارات الإسلامية للعمل الدعوي شأنه مجددًا وتراهن عليه لتفريغ الحملات المحمومة لتشويهها من مضمونها، وتستعيد معها ثقة القواعد.
وطالب الأشعل رموز الدعوة الإسلامية بالتركيز على المجال الدعوي وتعويض ما فاتها خلال الفترة السابقة، ومحاولة إصلاح ذات البين بين التيارات الإسلامية ذاتها؛ حيث إنه لا يمكن تنشيط الدور الدعوي فيما تعصف الخلافات بين التيارات الإسلامية «(سلفيون – إخوان – تيارات جهادية)، بل يجب ترتيب البيت الإسلامي من الداخل إذا كنا جادين في عودة الدعوة الإسلامية إلى مسارها الصحيح.
وإذا كان السفير الأشعل قد حمل القوى والأحزاب الإسلامية عن بعض ما آلت إليه الدعوة من تراجع، فإن هناك وجهة نظر ترى أن القوى الإسلامية عانت طويلاً من التضييق لمدة 60عامًا على الأقل من التضييق والتهميش والملاحقات الأمنية، وكانت تراهن على ضرورة تكريس مناخ من الحريات، وتثبت أركانه، ولعب دور سياسي يضمن تمتعه بأجواء داعمة لعملها الدعوي والسياسي، غير أنه اصطدمت بتركة ثقيلة من الأزمة جعلته تبحث عن حلول لها؛ مما دفعها لإهمال المسار الدعوي وهو ما استغله خصومها.
اختبار صعب
ويوافق على هذا الطرح الدكتور محمد عبده إمام -الأمين العام لمجلس أمناء السلفية- الذي يرى أن الدعوة الإسلامية تعرضت لمخاض صعب خلال السنوات القليلة الماضية نتيجة انهماك القوى الإسلامية في الصراع السياسي، وعدم قدرتها على إبعاد المسار الدعوي عن السياسي، وهو ما يعد خطأ استراتيجيًا اكتشفته القوى الإسلامية متأخرًا، ولكن بعد أن تحولت معركتها لمعركة وجود وليس مسعى لإنقاذ الشق الدعوي.
ونبه إلى أن الدعوة الإسلامية واجهت في السابق اختبارات شديدة الصعوبة في أغلب الدول العربية؛ حيث كانت إحدى الأنظمة التي كسرتها انتفاضة شعوبها تفرض قيودًا على دخول المساجد ومنها البطاقات الشخصية، وتحظر انتقال مصلين من مسجد لآخر إلا بموافقة الأمن وهو ما سقط أغلبه وإن لم تستفد القوى الإسلامية من هذه الطفرة في أغلب بلدان الربيع العربي ولاسيما في مصر وليبيا وتونس.
وطالب القوى الإسلامية بضرورة تجاوز المرحلة الحالية، والعمل على التركيز على المسار الدعوي حتى لا تفاقم خسائر هذه القوى، وتجد نفسها قد خسرت كل أرضيتها، وتعود إلى المربع صفر وهو أمر تسعى إليه القوى العلمانية والليبرالية التي لا تستند لقواعد شعبية اكتسبها الإسلاميون من كفاح طويل في المجال الدعوي، بل إن مكتسباتها السياسية تم تحقيقها من هذا المجال المحوري ولم تكن لنجاحاتها في الساحة السياسية، وهو أمر يجب أن يتنبه إليه الإسلاميون جيدًا إذا كانوا جادين في استعادتهم أرضيتهم، وإلا فإن أي خيار آخر سيوقع منطقتنا وهويتنا الإسلامية بين مطرقة الليبراليين وسندان اليساريين.
لاتوجد تعليقات