رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إعداد: معاوية محمد هيكل 11 فبراير، 2014 0 تعليق

الدعوة إلى وحدة الأمة وجمع الكلمة


نصوص الشريعة تأمر الناس بالاعتصام بالسنة، وتوجب عليهم لزوم الجماعة، وتحذرهم من الشذوذ والفرقة

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه، ويبغض ويعذب من وجه آخر».

 العلماء عرفوا كيف يختلفون وكيف يأتلفون، فسلمت أخوتهم من كل تكدير وتعكير ، وصفت نفوسهم من كل بغضاء وشحناء، ورضي عنهم خالق الأرض والسماء

 

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإن الوحدة بين المسلمين أمل تهفو إليه النفوس، وترتاح لتحقيقه القلوب، وهي مطلب شرعي جليل القدر عظيم الشأن، ومن أَجلِّ المساعي التي يسعى إليه المصلحون، وهو عمل لا يعرف قدره إلا من اصطلى بنار الفرقة وآلامها، فالأمة اليوم كم عانت من التنازع والتفرق والتشتت الذي سرى في كيانها ودب في أركانها.

     والواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم يستوجب من كل مسلم يخشى الله ويتقيه أن يسعى سعيا جادا حثيثا لتحقيقها على مستوى الفرد والأمة؛ لأن الفرقة هي التي مكنت الأعداء من رقابنا، وأسبابها عديدة، فلا ينبغي أن نجعل الخلاف بيننا في الأقوال والمذاهب الفقهية حائلا يحول بيننا وبين تحقيق الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية، فمصلحة الائتلاف والاجتماع مصلحة كلية لا بد أن تأتي في مقدمة الأولويات؛ فالمصالح العامة تتبعها الخاصة.

الائتلاف من أعظم النعم

لقد امتن الله تعالى على عباده بنعمة الائتلاف، فقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران:103).

     وبين سبحانه أنها من أعظم أسباب النصر، فقال عز من قائل: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (الأنفال:62-63)، فالتأييد حدث بأمر رباني، وأمر معنوي، وهو اجتماع المسلمين وتآلف قلوبهم، والواجب على المسلمين تحقيق هذه الوحدة الإسلامية؛ لأنها من متقضيات الإيمان.

     إن رابطة الدين تتلاشى أمامها رابطة النسب والعصبية؛ لأن التفرق من خصائص الجاهلية، ولن يؤتى المسلمون من قلة عددهم، ولكن يؤتون من قبل ذنوبهم، ومن أعظمها: التفرق والاختلاف، قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46).

     ولقد كان من أعظم الدروس التي استفادها المسلمون يوم بدر وأُحد، هو درس الوحدة والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف، ففي غزوة بدر لما اختلف الصحابة في أمر الغنائم أنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} الأنفال:1)، «أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر بالتوادد والتحاب والتواصل، فبذلك تجتمع كلمتكم، ويزول ما يحصل بسبب التقاطع والتخاصم والتشاجر والتنازع، ويدخل في إصلاح ذات البين: تحسين الخُلق لهم والعفو عن المسيئين منهم، فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء والتدابر». أ هـ (تفسير السعدي: 346).

     ويوم أحد وبعد أن مني المسلمون بالهزيمة؛ بسبب مخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الصحابة رضي الله عنهم: «أنى هذا»؟ أي: من أين أصابنا ما أصابنا وهُزمنا؟ أخبرهم ربنا فقال: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (آل عمران: 165)، حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، فعودوا على أنفسكم باللوم، واحذروا من الأسباب المهلكة.

    وفي بني قريظة لما قال النبي صلى الله عليه وسلم  للصحابة: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة». فمن الصحابة من صلى في الطريق عندما حان وقت العصر، فالصلاة لميقاتها، ومنهم من أخرها حتى صلاها بعد وقتها في بني قريظة؛ أخذا منه بظاهر النص، فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم  أحداً من الفريقين، بل استأصل مادة الخلاف والنزاع وصفهم جميعا صفا واحدا كالبنيان المرصوص لقتال العدو.

وهذا يؤصل أصلا شرعيا مهما -كما قرره الفقهاء-، وهو أن الخلاف في الفهم في مسائل الفروع لا ينبغي أن يؤدي إلى التنازع والفرقة؛ لأن كلا الفريقين مجتهد ويترددان بين أجر وأجرين، فكلاهما محسن.

     ولا يمكن بأي حال من الأحوال القضاء أبدا على الاختلاف في مسائل الفروع ما دام دليلها ظنيا محتملا؛ إذ لو أمكن ذلك لكان أولى العصور به عصر رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، ولكن أولى الناس بألا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما قد رأيت؟!

الفرقة أمر قدري يجب دفعه بالأمر الشرعي

     تضافرت نصوص الشريعة التي تأمر الناس بالاعتصام بالسنة، وتوجب عليهم لزوم الجماعة، وتحذرهم من الشذوذ والفرقة، وإن كانت الفرقة أمرا قدريا كونيا إلا أننا مأمورون بقطع مادتها، وإنهاء أسبابها، وبتر دواعيها، واستئصال شأفتها.

     قال الله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119)، اختلف المفسرون من السلف في هذه الآية تبعا للأمر القدري والشرعي، قال ابن عباس والحسن، رضي الله عنهما: أي: للاختلاف خلقهم.

     وروي ابن وهب عن طاووس: أن رجلين اختصما إليه فأكثرا، فقال طاووس: اختلفتما وأكثرتما، فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا، فقال طاووس: كذبت. فقال: أليس الله يقول: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119)، قال: لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة، وقيل: للرحمة والاختلاف.

     وقال الحسن: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير مختلف، فقيل له: لذلك خلقهم؟ قال: خلق هؤلاء لجنته، وخلق هولاء لناره، وخلق هؤلاء لعذابه، وهؤلاء لرحمته. (انظر: تفسير ابن كثير 7/490).

     ولا تعارض بين الأقوال، ففريق تكلم بالأمر الكوني القدري، وفريق تكلم بالأمر الشرعي، والفريق الثالث جمع بين القولين، فأهل طاعة الله المنفذون لأمره الشرعي هم أهل رحمته سبحانه، وأما أهل الاختلاف المفارقون للحق الذي شرعه فهم لم يخرجوا عن قضائه وقدره وحكمته الكوينة كما هو معلوم ومقرر، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر في المعائب، ولكن يحتج به في المصائب؛ إذ المعائب نحن منهيون عنها شرعا.

حتمية الاجتماع والائتلاف بين المسلمين

     الاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله، فقد أمر الله عباده بالاجتماع والائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف، فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران:103)، كما حذرهم من الفرقة فقال سبحانه: {ولاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (آل عمران: 105-106).

     قال ابن عباس رضي الله عنهما: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام:159).

وهذه الآية كما قرر الإمام ابن كثير -رحمه الله- عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفا له بجعله الدين مللا ونحلا، فبهذا العمل يكون قد لحقته البراءة من الله ورسوله. أهـ.

     ودلت الآية على أن الدين يأمر بالاجتماع وينهي عن التفرق والاختلاف في أصل الدين وسائر مسائله الأصولية والفرعية، وهذا تحذير من الله عز وجل لهذه الأمة حتى لا نسلك مسلك الأمم السابقة الذين جاءهم الدين والبينات الموجب لاجتماعهم، فتفرقوا واختلفوا وصاروا شعيا وأحزابا، والسنة النبوية كذلك تعظم شأن الوحدة والاعتصام، وتحذر من الفرقة والاختلاف.

     ومن ذلك ما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال».

 

     وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة». (رواه الإمام أحمد والترمذي، والحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم» رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد عن عبدالله بن عمر.

     ومما يدل على مراعاة أمر الوحدة الظاهرة وأثرها على الأعمال القلبية الباطنة قول النبي صلى الله عليه وسلم  وهو يسوي صفوف أصحابه في الصلاة، قائلا: «أقيموا صفوفكم.. (ثلاثا)، فوالله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم». (رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع، والسلسلة الصحيحة).

وروى مسلم بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يمسح المناكب في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم».

     ومن أجل هذا التوجيه النبوي الكريم وبيان العلاقة الوطيدة بين الظاهر والباطن، بادر الصحابة وامتثلوا واستجابوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم  حتى قال النعمان بن بشير رضي الله عنه : «فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وكعبه بكعبه».

     ومن هذا الباب أيضا ما رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه  قال: كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما ذلكم من الشيطان»، فكانوا بعد ذلك إذا نزلوا منزلا ضم بعضهم إلى بعض حتى إنك تقول لو بسطت عليهم كساء لعمهم.

     والذي يتأمل واقعنا المعاصر اليوم يرى بين أصحاب المنهج الواحد تفرقا وتمزقا وشحناء وبغضاء، حتى أصبح الولاء على الأسماء والأشخاص واللافتات؛ مما انعكس ذلك بالسلب على عقيدة الأخوة والرابطة الإيمانية، فاهتزت علائق الأفراد، وساد سوء الظن، وكثرت الغيبة والنميمة، وغاب العدل والإنصاف، وألصقت التهم بالأخيار؛ مخالفين بذلك ميثاق الخلق الإسلامي القويم، وبذكل سلم منا أعداء الدين، ولم يسلم منا إخواننا في الدين.

ميزان وضابط

     الواجب علينا شرعا أن نزن تصرفاتنا بميزان الشرع، وأن نعيد النظر من جديد في أسلوب معاملاتنا وأسس الحوار وآدابه فيما بيننا، فمن استمسك بدين الله أحببناه وواليناه، ومن وقع منه بعض الأخطاء والمخالفات التي لا تخرجه عن دائرة الإسلام، فإن عقد الأخوة لا يزال باقيا له مع استمرار النصح له دائما، وبغض ما يأتيه من مخالفات، فنحبه من وجه، ونبغضه من وجه آخر، وهذا هو المنهج الصحيح لقاعدة الحب والبعض، وأساسها قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة:102).

     فمن أخطأ أو زل فلا ينبغي أن نبغضه أو نذمه بإطلاق كما فعلت الخوارج، فكفروا مرتكب الكبائر، كذلك لا نمدحه بإطلاق، ولا نرفعه لدرجة جبريل وميكائيل، عليهما السلام، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما فعلت المرجئة.

وإنما دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وأقوال أئمة السلف في هذا الباب توضح بجلاء لا خفاء فيه هذا المبدأ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه، ويبغض ويعذب من وجه آخر».

     ثم قال: «وإنه كثيرا ما يجتمع في الفعل الواحد أو في الشخص الواحد الأمران: كالذم والنهي، والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية الفجورية، ولكن يسلب مع ذلك ما مدح به غيره على فعل بعض الحسنات السنية، فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائما بالقسط الذي أنزل الله له الميزان». (مجموع الفتاوى: 10/366).

     ثم قال: «ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب، ويجب من وجه، ويبغض من وجه، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم». (منهاج السنة النبوية 4/543).

سلامة المنهج أساس الوحدة

     إن من أهم أسباب فشل محاولات توحيد الصف: غياب صحة المعتقد وسلامة المنهج والاختلاف المذموم والتعصب للجماعة والحزب، لذلك فدعوتنا إلى الائتلاف والوحدة بين المسلمين لا تكون أبدا على حساب المنهج السليم ولا على حساب التفريط في قواعد الدين وأصوله؛ لأن حرصنا على الائتلاف ووحدة الصف لا قيمة لها ولا معنى إن نحن فرطنا في العقيدة، أو تساهلنا بما يؤدي إلى تمييع أصولها، ولو حدث ذلك لوقعنا في الشقاق والفرقة من حيث أردنا الوحدة والائتلاف، ولم لا؟ والتوحيد أساس الوحدة!

     ولذلك فنحن حينما ندعو للائتلاف لا نعني الائتلاف مع أصحاب المذاهب الضالة والمنحرفة عن منهج أهل السنة من الخوارج والروافض، والقدرية والمعتزلة، وغيرهم من فرق الضلال المنحرفة عن الصراط المستقيم.

بل لا بد من التفرقة في دعوتنا للوحدة والائتلاف، بين هؤلاء المبتدعة من الفرق الضالة وبين المختلفين من أهل السنة المتبعين لمنهج السلف؛ فهؤلاء هم الذين نسعى لتأليفهم وجمع صفوفهم.

     فالمختلف من أهل السنة، وإن وقع بعضهم في تأويل فاسد وافق فيه بعض الفرق الضالة دون أن يدعو إلى مذهب تلك الفرقة أو يفاصل أهل السنة ويفارقهم عليه، فإن هذا لا يُخرجه عن مسمى أهل السنة والجماعة، بل إن من علماء أهل السنة والجماعة وقع في بعض التأويلات وافق فيها مذاهب الأشاعرة، لكن دون أن يتبنى مذهبهم أو يدعو إليه، ومن أمثال هؤلاء العلماء الأجلاء: ابن حجر العسقلاني، والنووي، وابن الجوزي، وابن عقيل، وغيرهم، فهؤلاء العلماء استدرك عليهم علماء السنة بعض التأويلات التي وافقوا فيها مذهب الأشاعرة، ومع ذلك لم يخرج أحد من هؤلاء الأعلام عن مسمى أهل السنة والجماعة.

     فيجب علينا أن نفرّق بين من يتنكبون طريق الإسلام، وينحرفون عن منهج أهل السنة إلى مناهج أهل البدع والضلال، وبين الذين يخطئون وهم يسيرون على منهج أهل السنة، وإليه يدعون وبه يستمسكون، فهؤلاء أحوج إلى النصيحة والحوار منهم إلى التشنيع والاحتقار.

     إن غياب الفقه الشرعي المتكامل لحقيقة منهج أهل السنة والجماعة، وغياب الإطار الأخلاقي والسلوكي الذي تميز به دائما الأفاضل من أئمة السلف على مر العصور هو الذي أدى إلى هذا الواقع الأليم الذي تعيشه هذه الجماعات التي ترفع شعار أهل السنة والجماعة.

     إن الجماعة -كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية- سبب ونتيجة في الوقت نفسه، فالحرص على الاجتماع والائتلاف والموالاة العامة لكل المسلمين على أساس التقوى ومحبة الخير للآخرين، والحرص على هدايتهم وإخلاص النصح لهم بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر عليهم في كل حال، كل ذلك سبب لتنزل رحمة الله عز وجل على الناس، وإسباغ نعمه عليهم، ومن رحمة الله على الناس ونعمه عليهم المحافظة على اجتماعهم وائتلافهم وموالاة بعضهم بعضا.

اختلاف السلف في كثير من القضايا العلمية لم يمنعهم من الائتلاف

لقد اختلف السلف والأئمة وتعددت اجتهاداتهم في كثير من القضايا العلمية والعملية، ونتج عن ذلك تعدد المدارس الدعوية والفقهية.

     ووقع بعضهم في أخطاء اجتهادية وتأويلات بعيدة، ولكن الإخلاص في النية لله وحده، والصدق في القول والعمل، والالتزام بالعلم الشرعي والأخلاق النبوية الكريمة جعلهم يحرصون على وحدة الكلمة والمحافظة على الجماعة والأدب في الحوار، والصبر على المخالف، والدعاء له بالخير مع التزام ما يراه حقا وصوابا، والدعوة إليه، ذلك أنهم كانوا يعون هذه الحقيقة جيدا.

     إن التعاون فيما بينهم والمحافظة على جماعتهم الشاملة وائتلافهم ووحدة كلمتهم والوقوف صفا واحدا أمام عدوهم المشترك هو حياتهم، وهو أعظم ما يميزهم، وهو سبب نصرهم في كل الميادين. أهـ (نحو وحدة العمل الإسلامي، محمد بدر، باختصار).

دعوة لرأب الصدع وجمع الكلمة

- وختاما: نقول لكل من ينتمي لهذا الدين الحنيف من أهل السنة -وفي زماننا-: إننا جميعا في حاجة ماسة- وأحوج ما نكون من أي عصر مضى- إلى وحدة الصف، وجمع الكلمة، ودراسة فقه الخلاف عمليا، ومعرفة ضوابطه، ومعاييره وآدابه، وما هو السائغ منه وغير السائغ، وما يحمد منه وما يعاب، وكيف نتعامل مع كل نوع، كما تعامل أئمة السلف من هذه الأمة الذين عرفوا كيف يختلفون وكيف يأتلفون، فسلمت أخوتهم من كل تكدير وتعكير ، وصفت نفوسهم من كل بغضاء وشحناء، ورضي عنهم خالق الأرض والسماء.

     فيا علماء الأمة ودعاة الحق والخير في كل مكان، يا أولي الأحلام والنهي، يا من تتشرفون بالانتماء إلى أعظم عقيدة وأشرف منهج وخير هدي، من غيركم يسدد المسيرة؟! ويرعى حقوق الأخوة؟! ويسعى لرأب الصدع، وجمع الكلمة، وتقليل هوة الخلاف؟! يا دعاة الحق: أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، وأصلحوا ذات بينكم، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، هدانا الله وإياكم إلى أقوم طريق وأهدى سبيل. وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم إلى يوم الدين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك