الخوف من النفاق من سمات أهل الإيمان
لم يكن الصحابة ملائكة ولا معصومين من الذنوب والخطايا، وإن كانت العصمة تتحقق في اجتماعهم، بل كانوا بشرا، عاشوا قبل إسلامهم وإيمانهم بالرسالة الخاتمة في بيئة ومجتمع، لا يتورع عن ارتكاب الموبقات ومزاولة الرذيلة، ولكن تغيرت أحوالهم، وتبدلت أخلاقهم بعد انضمامهم إلى مدرسة معلم الناس الخير وهادي البشرية سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فاصحبوا صالحين وعظماء، يقودهم الإيمان بالله -عز وجل- ويحذوهم الأمل في الفوز برضا الرحمن.
نتاج التربية المحمدية
وقصة الصحابي الجليل حنظلة بن الربيع الأسيدي رضي الله عنه خير دليل على نتاج التربية المحمدية؛ فقد روى الإمام مسلم في صحيحه، عن حنظلةَ الأسيدي رضي الله عنه ، وكان مِن كتَّاب رسول الله[، قال: لقيني أبو بكر؛ فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلتُ: نافَق حنظلة! قال: -سبحان- الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين؛ فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافَسْنا الأزواج والأولاد والضَّيْعات؛ فنسينا كثيرًا ، قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا؛ فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافَق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما ذاك؟»، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين؛ فإذا خرجنا من عندك عافَسْنا الأزواج والأولاد والضَّيعات، نسينا كثيرًا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذِّكر، لصافحتكم الملائكة على فُرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة»، ثلاث مرات .
مرض خطير
النفاق مرض خطير بقسميه العقدي والعملي، والنقاق القلبي أشارت إليه آيات كثيرة من القرءان الكريم، ومنها سورة المنافقون: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}(المنافقون: ١)، وأما النفاق العملي، فله علامات كثيرة، وأهمها ما ورد في حديث أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»، متفق عليه، وفي رواية عبدالله بن عمرو ابن العاص: «وإذا خاصم فجر».
النفاق القلبي
ولكن المقرر شرعا أن النفاق القلبي أكثر خطورة وأعظم جرما من الفعلي؛ لأن الأول يحبط الأعمال، ويوجب لصاحبه الخلود في النار ، ومصداق ذلك قول الله -تعالى-: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا}(النساء: ١٤٥)، وقوله -تعالى-: {إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا}(النساء: ١٤٠)، وأما الثاني فهو أقل خطورة من سابقه مع شناعته وقبحه وسوء منقلبه، والمتعاطي به مذموم ومنبوذ في مجتمعه، والواجب على المسلم ألا يزاوله مهما كان الأمر.
التواضع وهضم النفس
والمراد من إيراد قصة هذا الصحابي الجليل بيان ما كان يتمتع به جيل الصحابة من التواضع، وهضم النفس، وعدم الاغترار بالأعمال الصالحة، واتهام النفس والخوف من موبقات الأعمال ومحبطاتها، ولا يجرؤ أحد مهما أوتي من علم وأخلص العبادة لله، ظاهرة كانت أم خفية أن يتهم نفسه بالنفاق، والتصنع، وعدم الجدية فيما يقوم به من طاعات، بل الكل يدعي الإخلاص والرغبة في الآخرة، وهذا الصنيع يتساوى فيه الناس جميعهم دون استثناء إلا من رحم ربك.
جيل الصحابة
ولم يسجل التاريخ الإسلامي، ولم تنقل كتب التراجم وأخبار من مضى من العلماء، والعباد، والزهاد، من اتهم نفسه بالنفاق من أجل ما لاحظ في نفسه من تصرفات تخالف بين ما يتظاهر به في العلن، ثم ما يعتريه من نقص أو تقصير غير مقصود في حال انضوائه وبعده عن أنظار الناس، إلا جيل الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين-؛ مما يدل على خوفهم من تسرب النفاق إليهم {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}(الكهف: ١٠٤).
صديق الأمة
ولم يكن الصحابي الجليل حنظلة الأسيدي وحيدًا في هذه الملاحظة من تغير حال المرء بين فينة وأخرى، يتردد إيمانه بين صعود وهبوط، نظرا لقربه أو بعده عن الطاعة، بل شاطره في ذلك صديق الأمة وأرجحها علما وإيمانا أبو بكر الصديق]، وأخبر بأنه يشعر ويحس بمثل ذلك، وأشار إليه بأن العلاج سيكون عند الحبيب محمد -عليه الصلاة والسلام .
ولم يكن الأمر مقصورًا عليهما فقط، ولكن كل الصحابة كانوا يخافون النفاق، يقول ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم يقول: «إنه على إيمان جبريل وميكائيل» أخرجه البخاري.
فهذا الفاروق عمر رضي الله عنه ، يقول لحذيفة بن اليمان صاحب سرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنشدك الله، هل سماني لك رسول الله -يعني في المنافقين-؟؛ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدا». رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح .
أبي الدرداء صلى الله عليه وسلم
وهذا جبير بن نفير يقول دخلت على أبي الدرداء رضي الله عنه منزله بحمص، فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت له: غفر الله لك يا أبا الدرداء، أما أنت والنفاق، ما شأنك وشأن النفاق؟! فقال: اللهم غفرًا، (ثلاثًا)، لا يأمن البلاء من يأمن البلاء، والله إن الرجل ليفتن عن ساعة واحدة؛ فيقلب عن دينه. ابن عساكر في تاريخ دمشق.
بحور من الحسنات
فهؤلاء الصحابة كانت لديهم بحور من حسنات ماحية، وأعمال جليلة أعظمها صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والوقوف معه في أحلك مراحل الدعوة وأصعبها؛ فبذلوا مهجعهم، وقدموا النفس والنفيس في سبيل الله -تعالى-، وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وحرر القرآن الكريم بأسبقيتهم وفوزهم برضا الرحمن، ومع ذلك كانوا يخافون النفاق على أنفسهم، ولا يغترون على ما هم عليه من الطاعة والذكر؛ ولذلك الواجب علينا أن نقتدي بهم، ونستن بسنتهم؛ لأنهم كانوا مصابيح الدجي؛ ولقد صدق عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- عندما قال: «من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا خير هذه الأمة ، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونقل دينه؛ فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم، والله رب الكعبة. رواه أبو نعيم في حلية الأولياء.
لاتوجد تعليقات