الخـــلاف المعتـبر
الخلاف المعتبر هو الخلاف السائغ ووجوده بين الأمة ظاهرة طبيعية لا بأس بها ولا توجب فرقة ولا تناقضا ولا تحزبا، ولا معاداة، فهو اختلاف التنوع كما يعبر عنه محققو العلماء.
وهو معلم من معالم كمال الشريعة وصلاحها لكل زمان وإنسان ومكان، وهو الخلاف المبني على موارد الاجتهاد المعتبر، وهي ما ترددت بين طرفين واضحين، وأصلين شرعيين، الحق متردد بينهما، وبه حصل الإشكال والخلاف.
فقد يكون الخلاف قريبا، كالاختلاف في أمر مشروع، فهل هل هو واجب، أم مستحب؟ وأيضا الخلاف في غير المشروع هل هو محرم أم مكروه؟!
وقد يكون بعيدا في محرم أو مباح أو واجب،
وشيخ الإسلام عندما ذكر اختلاف التنوع، أورد أنه على وجوه:
1- منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين مشروعا كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة فزجرهم عن الاختلاف رسول الله [، وقال: «كلاكما محسن» (رواه البخاري) ومثله الاختلاف في صفة الأذان والإقامة والتشهد والاستفتاح.
2- ومنه ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الآخر، لكن العبارتين مختلفتان.. ثم الجهل أو الظلم، يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.
3- ومنه ما يكون المعنيان غيرين، لكن لا يتنافيان، فهذا قول صحيح، وذاك قول صحيح، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جدا.
4- ومنه ما يكون طريقتين مشروعتين، ورجل أو قوم قد سلكوا هذا الطريق وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين، ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما أو تفضيلها بلا قصد صالح أو بلا علم، أو بلا علم ولا نية.
وبادئ ذي بدء لابد أن يعلم أن المفتي قائم في الأمة مقام النبي[ لأنه[ قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم» (أخرجه في الصحيح).
ولأنه مبلغ عنه [ لما في البخاري في خطبته [ بمنى حيث قال في آخرها: «ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب».
فلا بد أن تكون هذه الحقيقة في قلب المفتي أولا ليتقي الله عز وجل، ولابد أن يقدرها قدرها، وهو موقّع عن رب العالمين في إيقاع أحكامه الشرعية، ونافذ أمره بمنشور الخلافة، ثم الأمة لابد أن تقدر ذلك وتعتبره لأمره سبحانه بطاعة أولي الأمر - وهم قطعا الأمراء والعلماء كما في آية النساء: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (النساء: 59).
فأمر سبحانه بطاعتهم، لكنها قيدها بطاعته وطاعة رسوله [ ولذا لم يكرر الفعل معهم، ولجلالة هذه المهمة وعظم قدرها ديانة ومدافعا عظّمت الشريعة منصب الفتيا وهيأت له معاني، واشترط له العلماء في كتب الأصول والمقاصد شروطا دارت على أمور معتبر جدا، وأهمها:
1- حفظ الديانة وصيانتها، فلا بد من قدر عظيم من هذا الجانب يتحلى به المفتي، وما كان الورع إلا سياجا حافظا لهذا الأصل، مانعا من التشهي والهوى والظلم، بل يحاذر صاحبه من الفرية والكذب والقول على الله ورسوله [.
ومن لطائف الاستدلال هاهنا أنه في قوله تعالى من سورة الأعراف: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} (الأعراف: 152).
قال أبوقلابة رحمه الله، وهو من سادات التابعين: «هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة»، قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله: «فإن أهل الكذب والفرية عليهم من الغضب والذلة ما أوعدهم الله به».
2- أن يكون عالما حافظا لكتاب الله عز وجل القرآن، أو لآيات الأحكام منه على أقل تقدير متناولا لعلمه بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله وما أريد به.
3- وكذلك علمه وحفظه لسنة النبي [ أو على الأقل لأحاديث الأحكام منها، ومن ذلك العلم بالمسائل المجمع عليها؛ إذ الاجماع المعتبر هو المبني على مستند صحيح من الكتاب والسنة.
4- كذلك عنده من علوم الآلة التي يفهم بها كلام ربه وسنة نبيه [ من اللغة والأصول والصحة والضعف، ومسالك العلماء والمجتهدين، ما يحقق مقصوده ويسع به فتاوى الناس.
5- أن يكون له من الفقه والعقل ما يفهم به النوازل وواقع المسائل وتكييفها الفقهي الشرعي لا العاطفي والنفسي، وهي المعبر عنها عند العلماء بالقريحة الصحيحة أو الملكة الفقهية.
6- والمفتي المعتبر هو الذي يحمل الناس على المعهود والوسط القسط، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال.
كما أنه يجب أن يكون مراعيا عدم التشويش على الناس ما ألفوه من دينهم واتباعه معهم غرائب الأقوال وشواذ المسائل، ولو كان ما هم عليه قولا مرجوحا ما لم يكن مخالفا دليلا صحيحا، أو مقصدا معتبرا من مقاصد الديانة.
لاتوجد تعليقات