رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: هناء الأيوب 15 يناير، 2019 0 تعليق

الخط الأحمر والامتحان الأكبر


ننسى أحيانا أننا مراقبون فمسؤولون، وفي ساحة العرض الأكبر موقوفون، وأن الله -تعالى- يحصي علينا كلماتنا ومنظوراتنا، أعمالنا ومسموعاتنا، بل وحتى أفكارنا وخواطرنا، لقوله -تعالى-: {... إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}(الإسراء: 36). حتما إن كل ذلك معلوم لديه -جل جلاله- من لا تخفى عليه خافية؛ فقد يزل اللسان، أو يفلت السمع، أو يزيغ البصر أحيانا، وقد تسوء الخواطر، أو يشطح العقل بسخافات أحيانا أخرى، كل ذلك وارد حتى وإن اجتهدنا في إصلاح أنفسنا؛ لأننا بشر ولسنا ملائكة، إلا أن الله -تعالى- من رحمته وفضله  لا يؤاخذ عبده بما يخطر بباله من سوء؛ ما لم يستقر في قلبه، وتعمل به جوارحه .

الحدود الشرعية

      ولكن لابد وأن نضع نصب أعيننا الحدود الشرعية، ونجتهد ألا نتعداها مهما ضعف إيماننا، أو فترت عباداتنا، أو كثرت أخطاؤنا وزلاتنا!! هي خطوط حمراء ينبغي مجاهدة النفس على عدم تجاوزها في مراحل الحياة جميعها وظروفها، هي مبادىء لا بد من الالتزام بها، هي حمى الله -تعالى- لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « ألا وإن لكلِّ ملِكٍ حِمى، ألا وإن حمى الله محارمه». رواه البخاري ومسلم.

الزلل وارد

     إن الزلل وارد لا محالة؛ حيث إن كل ابن آدم خطاء، ولكن خير الخطائين التوابون، والأخطاء والزلات إذا كانت عابرة، ولم يسبقها نية للمداومة على فعلها، أو يعقبها إصرار على إتيانها؛ فإنها تُغفر -بإذن الله- لصاحبها، طالما استغفر منها ولم يعتد عليها، بل تاب منها توبة صادقةً نصوحا؛ وذلك لقول الرسولصلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهُم» رواه مسلم، ولكن الخطورة تكمن في الإصرار على مخالفات بعينها، والاستهانة بالمداومة على إتيانها، دون توجيه أدنى لوم أو عتاب للذات، وعدم إلحاق أي قدر من الندم والتحسر بها؛ مما ينقلها من مرحلة الزلل العابر إلى مخالفات شرعية متعمدة، تورث غضب الرب وإن كانت صغائر؛ فإن الإصرار عليها والألفة بها قد يحولها إلى كبائر كما ذكر العلماء؛ مما يمكن عدُّه تجاوزًا للخط الأحمر؛ ومما لا شك فيه، أن الاستهانة بالمخالفات الصغيرة والإصرار عليها، كثيرا ما تورث الاستهانة بالمخالفات الأكبر؛ فالذنب يمهد للذنب، والصغيرة تجر الكبيرة.

للذنب فتنة

     كما أن للذنب فتنة؛ فقد نُسب لابن عباس -رضي الله عنهما- هذا التحذير: «يا صاحب الذنب لا تأمن فتنة الذنب، وسوء عاقبة الذنب؛ ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته، وضحكك وأنت لم تدر ما الله صانع بك أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب إذا ما فاتك أعظم من الذنب، وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب» (ابن القيم، الجواب الكافي).

تقصير الوالدين

     وقد يقصر الوالدان في غرس الحرص على عدم تجاوز الحدود الشرعية التي حرمها الله ورسوله لدى أبنائهما؛ فنرى تهاونًا من بعض الأمهات والآباء في توجيه الأبناء إلى الاجتهاد في الطاعات، واجتناب المعاصي لتحقيق مصالحهم الأخروية، مقابل حرصهم الشديد على نيل مصالحهم الدنيوية، مثل المستوى الدراسي، أو الصحي، أو توفير الكماليات، وتكون النتيجة تهاون الأبناء في الدين وتكرار تجاوز الخطوط الحمراء.

أقوى الدوافع

     وإن من أقوى الدوافع التي تجعلنا على حذر دائم، وحرص شديد على عدم تجاوز حدود الله، سواء في أنفسنا، أم في أبنائنا تذكُّر دوام مراقبة الله -تعالى- وزوال الدنيا وديمومة الآخرة؛ فأما تذكر دوام مراقبة الله -تعالى- من لايخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ فإنه حتمًا يورث استشعار عظمته -سبحانه- والهيبة والخشية منه.

دقة علم الله -جل وعلا

     ولقد صوّر المولى -عز وجل- دقة علمه بكل خفايا صدورنا في قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(ق: 18- 16)؛ فالله -تبارك وتعالى- مستوٍ على عرشه فوق السموات السبع، وبالرغم من ذلك فهو بعلمه أقرب إلينا من عروقنا التي تلازمنا، وتسري فيها دماؤنا، ومع ذلك جعل لكلٍّ منا ملكين، عن اليمين وعن الشمال قعيد (صيغة مبالغة تدل على دوام الملازمة)؛ فالملكان على أكتاف كل منّا يكتبان ما نمليهما بأعمالنا، وأقوالنا وكل ما يبدر منا، ليس ليطلعوا الله عليه فهو -سبحانه جل جلاله- أقرب إلينا من هذين الملكين، إنما يكتبان ويكتبان ليقال لكل منّا يوم العرض الأكبر:  {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(الإسراء: 14). 

زوال الدنيا

     وأما تذكر زوال الدنيا؛ فيكون بالتيقن بفنائها، وانقطاع ملذاتها؛ مما يورث عدم تعلق القلب بها، ويدفع إلى سهولة التخلي عن شهواتها؛ وَمِمَّا قيل في الدنيا وما ينبغي للعبد حيالها أنها: «دحض مزلة، ودار مذلة، عمرانها إلى خرائب صائر، وساكنها إلى القبور زائر، شملها على الفراق موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار؛ فافزع إلى الله، وأرض برزق الله، لا تستلف من دار فنائك إلى دار بقائك؛ فإن عيشك فيء زائل، وجدار مائل، أكثر من عملك، وأقصر من أملك».

الآخرة وديمومتها

     وأما تذكر الآخرة وديمومتها؛ فيكون بالاستعداد للامتحان النهائي؛ فنحن نستعد أو نُعِد أبناءنا لامتحانات آخر العام، بتهيئة الجو المناسب، والحث على التركيز أثناء المراجعة، ووضع خطط زمنية وجداول لتنظيم المذاكرة، بل وقد نلجأ للدروس الخصوصية؛  فنبذل قصارى جهدنا في توفير كل ما من شأنه أن يحقق الاجتهاد والتفوق الذي نطمح إليه، كل ذلك مطلوب وتحتمه علينا مسؤولياتنا، بوصفنا مربّين تجاه أنفسنا أو أبنائنا، ولكن! هلَّا أوْلَينا هذا الاهتمام للاستعداد للامتحان النهائي الحقيقي؟!

الامتحان الذي سيحق لا محالة في وقته المحدد الذي لا يعلمه إلا مالك يوم الدين؛ فالموعد محتوم، والوقت غير معلوم، ولكنه واقع بالتأكيد، يمتحن فيه العبيد، هو امتحان على غير العادة، يشترك فيه الفقراء والسادة، لا تأجيل فيه ولا إعادة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك