رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 1 ديسمبر، 2014 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- {يضل مـن يشاء}

 

تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال، فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه

 

تكرر في القرآن الكريم في مواضع عديدة أن الله -تعالى- يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ويلاحظ أن الله -تعالى- ذكر الإضلال قبل الهداية في تلك المواضع؛ وسبب ذلك كما ذكره الشيخ صديق حسن: «وتقدم الإضلال على الهداية لأنه متقدم عليها؛ إذ هو إبقاء على الأصل، والهداية إنشاء ما لم يكن».

يؤيده الحديث القدسي أن الله -تعالى- قال: «ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم» أخرجه مسلم؛ فالأصل في الإنسان الضلال إذا لم يهتد بنور الله الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله.

     وقد يظن بعض الناس أن إضلال الله -تعالى- لمن شاء من عباده فيه ظلم له أو تجن عليه، تعالى الله عن ذلك علوا كثيرا، بل إن الله -تعالى- حكيم رحيم لا يعبث ولا يظلم، والأدلة الشرعية تقرر أن الهداية فضل كما قال تعالى:{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}(الحجرات: 17)، وأن الإضلال عقوبة كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(التوبة: 115)، فالله -تعالى- لا يبتدئ عباده بالإضلال حتى يختاروا هم الضلال على الهدى، ويقترفوا من الأعمال ما يستوجب تركهم وما اختاروا، فلا يمن عليهم بالهداية؛ لأن الله -تعالى- أعلم بمن يستحق الهداية كما قال تعالى:{إِنّ ربّك هُو أعْلمُ بِمنْ ضلّ عنْ سبِيلِهِ وهُو أعْلمُ بِالْمُهْتدِين}(القلم: 7)، وقال:{وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ}(النجم: 30).

والضلال هو: البعد عن الطريق المستقيم سواء أكان ذلك البعد كثيراً أم قليلاً. وقد وردت كلمة الضلال في القرآن الكريم لمعان عديدة، تفهم بحسب السياق، فمن ذلك:

1-الضلال بمعنى الغواية: قال تعالى:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا}(يس: 62).

2-وبمعنى الخسران:قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}(غافر: 25).

3-وبمعنى الشّقاء: قال تعالى: {فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}(الأعراف: 30).

4-وبمعنى البطلان: قال تعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}(محمد: 1).

5-وبمعنى الخطأ: قال سبحانه:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ}(النساء: 176).

6- وبمعنى الغياب والفقدان قال سبحانه:{وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} (السجدة: 10)، أي إذا ضاعت ذرات أجسادنا في الأرض {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۚ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}(السجدة: 10).

7- وبمعنى النّسيان: ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}(البقرة: 282).

8- الجهل: قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}(الشعراء: 20).

9- الضّلال الّذي هو ضدّ الهدى: ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ}(الصافات: 71).

     وهنا ينبغي التنبيه على أن قول الله سبحانه ممتناً على نبيِّه صلى الله عليه وسلم : {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}(الضحى: 7)، لا يراد بالضلال هنا اتباع الباطل، فإن الأنبياء معصومون من الإشراك قبل النبوة بالاتفاق، والله -تعالى- حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم من جميع أعمال الجاهلية المنحرفة، قال الشيخ ابن عاشور: «ولم يزل العلماء يجعلون ما تواتر من حال استقامته ونزاهته عن الرذائل قبل نبوته دليلا من جملة الأدلة على رسالته، بل قد شافه القرآن به المشركين بقوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(يونس: 16)، وقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}(المؤمنون: 69)؛ ولأنه لم يؤثر أن المشركين أفحموا النبي صلى الله عليه وسلم  فيما أنكر عليهم من مساوي أعمالهم بأن يقولوا : فقد كنت تفعل ذلك معنا.

فمعنى الآية كما قال القرطبي: أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك: أي أرشدك، والضلال هنا بمعنى الغفلة كقوله جل ثناؤه: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}(طه: 52)، أي لا يغفل، وقال في حق نبيه: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ  }(يوسف: 3).

وقال الشيخ ابن عثيمين: «وجدك ضالا أي غير عالم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم شيئا قبل أن ينزل عليه الوحي كما قال تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُﯽ } (النساء: 113)، وقال: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}(العنكبوت: 48).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو المعصوم المحفوظ- يتعوذ بالله من الضلال، فنحن أولى بذلك وأجدر، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون» أخرجه مسلم.

وعن أم سلمة قالت: ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم  من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال:»اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ»أخرجه مسلم.

وهناك أسباب تجلب للإنسان الضلال بكسبه وتحصيله، منها:

1- الشرك بالله: قال تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا     }(النساء: 116).

2- ترك السنة: قال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}(النور: 54) وقال ابن مسعود: «لو تركتم سنة نبيكم لضللتم».

3- اتباع الهوى والشهوات: قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(الجاثية: 23) .

4- الكبروالترفَّع عن قبول الحق: قال الله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }(الأعراف: 146).

5- الحسد:قال تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}(البقرة: 109).

6- قرينُ السوء: قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَـلَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا(27) يَـوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلا(28) لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَـنُ لِلاِْنسَـنِ خَذُولا}(الفرقان: 27 - 29).

7- اتباع العادات الجاهلية، وتقليد الآباء والأجداد: قال تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ﴿69﴾ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}(الصافات: 69 - 70).

7- فتنة الدنيا وزينتها: قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (إبراهيم:2-3).

     قال ابن القيم: «تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال، فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه: والمؤثر لأثره، وكذلك الضلال، فأعمال البر تثمر الهدى، وكلما ازداد منها ازداد هدى، وأعمال الفجور بالضد، وذلك أن الله -سبحانه- يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح, ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء.

     كقوله -تعالى- مبينا أن الفسق هو سبب ضلالهم: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (البقرة: 26-27)، وقال تعالى مبينا أن الظلم سبب ضلالهم {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء} (إبراهيم:27)، وكذلك الزيغ قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ} (الصف:5)، وأيضا النفاق قال تعالى: {. فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} (النساء:88)، وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} (البقرة:88)، وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ    } (الأنعام:110)، وقال تعالى: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:14)، فأخبر سبحانه أن كسبهم غطى على قلوبهم وحال بينها وبين الإيمان بآياته، وقال تعالى في المنافقين: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة:67)، فجازاهم على نسيانهم له أن نسيهم، فتركوا الله فتركهم سبحانه.

نسأل الله -تعالى- الهداية إلى الصراط المستقيم والثبات عليه، ونعوذ بالله -تعالى- من الضلال والمضلين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك