رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 18 نوفمبر، 2013 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن-يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب


ارتقى الإسلام بالفرد من الغرائز البهيمية المجردة إلى الصفات الإنسانية المكرمة بما شرعه الله تعالى من أحكام محكمة، وأخلاق رفيعة وآداب سنية كما قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم}، فغالب الحيوان لا يبالي أن يتواصل من أي أنثى من نوعه ولو كانت قريبة جدا له، إلا أن الإسلام أحاط المسلم بمحرمات من النساء، وجعل علاقته بهن قائمة على أساس الاحترام وقطع الرغبة فيهن.

     لأنهن من محارمه كما قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}(النساء:23).

ومن خلال الآية يمكن تقسيم المحرمات من النساء في الشريعة إلى ثلاثة أنواع:

1- محرمات بالنسب: كالأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنات الأخ، وبنات الأخت.

2- محرمات بالصهر: كزوجة الابن، وزوجة الأب، وأم الزوجة، وبنت الزوجة المدخول بأمها.

3- محرمات بالرضاع.

والرضاع في الاصطلاح: هو وصول لبن الآدمية إلى جوف الآدمي بشروط مخصوصة.

     وقد ورد في الرضاع نصوص شرعية عديدة تبين أحكامه وتقرر شروطه وضوابطه؛ منها الآية المتقدمة من سورة النساء، وعن ابن عباس قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة - أي: يتزوجها - فقال: «إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» أخرجه مسلم.

     وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها وإنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة قالت عائشة: يارسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أراه فلانا» - لعم حفصة من الرضاعة - فقالت عائشة: يا رسول الله لو كان فلان حيا - لعمها من الرضاعة - دخل عليّ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعم إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة».

     وعن عائشة قالت أتاني عمي من الرضاعة أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليّ بعدما نزل الحجاب - وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة- فقلت: والله لا آذن لأفلح حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني ولكن أرضعتني امرأته، قالت عائشة فلما دخل رسول الله قلت: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس جاءني يستأذن عليّ فكرهت أن آذن له حتى أستأذنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ائذني له » وفي لفظ قال: «فليلج عليك عمك» قالت عائشة: إنما أرضعتني المرأة فقال: «إنه عمك فليلج عليك»، وفي لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تحتجبي منه فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب».

ولخطورة أمر الرضاع فقد ذكر الفقهاء له شروطا عديدة حتى يتحقق وجوده وتثبت آثاره:

- الشرط الأول: أن تكون المرضعة امرأة، فلا يتحقق الرضاع بسبب لبن البهيمة.

- الشرط الثاني: أن يكون الرضاع في العامين الأولين من عمر الطفل، فلا يحرم رضاع الكبير وهو ما كان بعد الحولين، وهو مذهب جمهور الفقهاء وكبار الصحابة كعمر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وذلك لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }(البقرة:233)، وقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام»، وكان رجل في سفر فولدت امرأته فاحتبس لبنها فجعل يمصه ويمجه فدخل حلقه، فأتى أبا موسى الأشعري فسأله فقال: حرمت عليك امرأتك، فأتى ابن مسعود فلم يحرم عليه امرأته وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشر العظم».

- الشرط الثالث: التيقن من وصول اللبن إلى جوف الطفل سواء أتم الرضاع عن طريق المصّ من الثدي، أو تم صب اللبن في إناء ثم سقيه للطفل وهو (الوجور)، أو عن طريق الأنف وهو (السعوط) أما إذا حصل شك في وصول اللبن إلى جوفه فلا يثبت التحريم.

- الشرط الرابع: أن يبلغ اللبن المقدار الذي ينشر المحرمية وهو خمس رضعات مشبعات وذلك لقول عائشة: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يتلى من القرآن».

     ولابد أن تكون الرضعات متفرقات بحيث يفصل بينها زمن، وهو الأحوط وهو اختيار ابن القيم وابن سعدي وابن عثيمين فلو نقلته المرضع من ثدي لآخر فلا تعد هذه رضعة.

وإذا ثبت الرضاع بشروطه يترتب عليه مجموعة من الأحكام منها:

1- ثبوت الحرمة بالرضاع، فالرضاع يشترك مع النسب في حرمة النكاح، وجواز النظر، وإباحة الخلوة، وثبوت المحرمية، ويفترقان من حيث وجوب النفقة، وثبوت الميراث، وتحمل الدية، ووجوب صلة الرحم، قال النووي:  «وأجمعت الأمة على ثبوتها بين الرضيع والمرضع وأنه يصير ابنا لها، يحرم عليه نكاحها أبدا، ويحل له النظر إليها والخلوة بها والمسافرة، ولا يترتب عليه أحكام الأمومة من كل وجه، فلا يتوارثان ولا يجب على واحد منهما نفقة الآخر، ولا ترد شهادته لها، ولا يعقل عنها (دفع الدية)، ولا يسقط القصاص عنها بقتله فهما كالأجنبيين في هذه الأحكام».

2-إذا كان للمرضع زوج فإنه يكون أبا لهذا الرضيع - ذكرا كان أم أنثى - لأنه صاحب اللبن قال ابن تيمية: «وصار الرجل الذي درّ اللبن بوطئه أبا لهذا المرتضع باتفاق الأئمة المشهورين» وهو مذهب الجمهورمن الصحابة والتابعين وذلك لحديث عائشة في قصة أفلح أخي أبي القعيس.

     ولو كان لرجل امرأتان فأرضعت هذه طفلا وهذه طفلة كانا أخوين ولم يجز لأحدهما التزوج من الآخر باتفاق الأئمة الأربعة، وهذه المسألة سأل عنها ابن عباس فقال: «اللقاح واحد» يعني الرجل الذي وطئ المرأتين حتى درّ اللبن بسببه واحد.

3- تنتشر الحرمة بسبب الرضاع بين الرضيع وأصول المرضع وفروعها وحواشيها فجميع أقارب المرأة أقارب الرضيع من الرضاعة؛ فأولادها: إخوته.

     وأولاد أولادها: أولاد إخوته. وآباؤها وأمهاتها: أجداده وجداته، وإخوانها وأخواتها: أخواله وخالاته، وكل ما سبق عليه حرام.

     وأبناء إخوانها وأبناء أخواتها: أبناء أخواله وخالاته حلال عليها إن كان المرتضع أنثى.وبنات إخوانها وأخواتها: بنات أخواله وخالاته حلال عليه الزواج منهن إن كان المرتضع ذكرا. وهكذا بالنسبة لزوج المرأة في أصوله وفروعه وإخوانه وأخواته وأبنائهم وبناتهم.

4- الحرمة تنتاول الرضيع وأولاده فقط فهم بالنسبة للمرضعة وزوجها كأبنائهما الحقيقيين في الحرمة والمحرمية، أما إخوة المرتضع الحقيقيون أو من رضاع آخر فهم أجانب بالنسبة لهذه المرضعة وزوجها وأقاربهما، فيجوز لإخوة المرتضع الحقيقيين أن يتزوجوا من أبناء المرضعة سواء من هذا الزوج أوغيره الذين هم إخوة المرتضع بالرضاع، والعكس صحيح فيجوز لإخوة المرتضع من الرضاعة أن يتزوجوا من اخواته الحقيقيات حيث إن علاقة الرضاعة قاصرة على الرضيع وفروعه دون إخوته وبقية عائلته.    

     قال شيخ الإسلام: «لا فرق باتفاق المسلمين بين أولاد المرأة الذين رضعوا مع الطفل وبين من ولد لها قبل الرضاعة وبعد الرضاعة باتفاق المسلمين».

     فهذه نبذة موجزة عما اشتملت عليه الكلمة النبوية الجامعة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» مما استخرجه العلماء منها من شروط وآثار، نسأل الله العلم النافع والعمل الصالح.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك