رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 24 فبراير، 2014 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن -{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} (النساء: 32)


 
الإنسان بطبعه يحب الاستكثار من الخير، ويسعى للوصول إلى مقاصده ومطلوباته، وبعض الناس يتجاوز حدود الطموح المشروع إلى طلب ما في أيدي الآخرين، والرغبة في تحصيل ما لدى غيره، أو على الأقل تمني زواله منه، وبعضهم يتطلع إلى أمور ممنوعة شرعا أو حسا وواقعا؛ لذا جاء قوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}، ليقرر قضية كلية، وقاعدة دينية تحدد ضوابط الطموح وتكبح جماح الرغبات.

ويبين ابن حجر معنى التمني فيقول: «التمني إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خير من غير أن تتعلق بحسد فهي مطلوبة وإلا فهي مذمومة.

وقد قيل: إن بين التمني والترجي عموما وخصوصا، فالترجي في الممكن، والتمني في أعم من ذلك، وقيل: التمني يتعلق بما فات، وعبر عنه بعضهم: بطلب ما لا يمكن حصوله».

وذكر الشيخ ابن عاشور أنواع التمني وحكم كل منها فقال: «والتمني هو طلب حصول ما يعسر حصوله للطالب، وذلك له أحوال:

     منها أن يتمنى ما هو من فضل الله غير ملتفت فيه إلى شيء في يد الغير، ولا مانع يمنعه من شرع أو عادة، سواء كان ممكن الحصول كتمني الشهادة في سبيل الله، أم كان غير ممكن الحصول كقول النبي صلى الله عليه وسلم  : «ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل»، وقوله صلى الله عليه وسلم : «ليتنا نرى إخواننا»، يعني المسلمين الذين يجيئون بعده.

ومنها أن يتمنى ما لا يمكن حصوله لمانع عادي أو شرعي، كتمني أم سلمة أن يغزو النساء كما يغزو الرجال، وأن تكون المرأة مساوية للرجل في الميراث.

ومنها أن يتمنى تمنيا يدل على عدم الرضا بما ساقه الله والضجر منه، أو على الاضطراب والانزعاج، أو على عدم الرضا بالأحكام الشرعية.

ومنها أن يتمنى نعمة تماثل نعمة في يد الغير مع إمكان حصولها للمتمني بدون أن تسلب من التي هي في يده؛ كتمني علم مثل علم المجتهد أو مال مثل مال قارون.

ومنها أن يتمنى ذلك لكن مثله لا يحصل إلا بسلب المنعم عليه به كتمني ملك بلدة معينة أو زوجة رجل معين.

ومنها أن يتمنى زوال نعمة عن الغير بدون قصد مصيرها إلى المتمني.

     فالتمني الأول والرابع غير منهي عنهما، وقد ترجم البخاري في صحيحه: «باب تمني الشهادة في سبيل الله وباب الاغتباط في العلم والحكمة، وذكر حديث: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس».

وأما التمني الثاني والثالث فمنهي عنهما؛ لأنهما يترتب عليهما اضطراب النفس وعدم الرضا بما قسم الله والشك في حكمة الأحكام الشرعية.

     وأما التمني الخامس والسادس فمنهي عنهما لا محالة، وهو من الحسد، وفي الحديث: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها»، ولذلك نهي عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، إلا إذا كان تمنيه في الحالة الخامسة تمني حصول ذلك له بعد من هي بيده بحيث لا يستعجل موته.

والسادس أشد وهو شر الحسدين إلا إذا كان صاحب النعمة يستعين به على ضر يلحق الدين أو الأمة أو على إضرار المتمني.

وقد عقد البخاري ترجمة في صحيحه فقال: (باب ما يكره من التمني) وذكر الآية المتقدمة.

     قال ابن حجر: «قال ابن عطية: يجوز تمني ما لا يتعلق بالغير، أي مما يباح، وعلى هذا فالنهي عن التمني بخصوص بما يكون داعية إلى الحسد والتباغض، وعلى هذا محصل قول الشافعي: «لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون كذا». ولم يرد أن كل التمني يحصل به الإثم».

     وقد ذكر ابن كثير بعض الآثار التي تشير إلى سبب نزول قوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}، فعن مجاهد قال : قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث. فأنزل الله عز وجل : {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}، وقال السدي: فإن الرجال قالوا: نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء: نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي».

     وعن ابن عباس قال: «ولا يتمنى الرجل فيقول: «ليت لو أن لي مال فلان وأهله فنهى الله عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله»، قال ابن كثير: «وهو الظاهر من الآية، ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: {واسألوا الله من فضله} أي: لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، والتمني لا يجدي شيئا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم; فإني كريم وهاب».

ويبين ابن عاشور خطورة التمني فيقول: «وقد أصبح هذا التمني في زماننا هذا فتنة لطوائف من المسلمين سرت لهم من أخلاق الغلاة في طلب المساواة، فصاروا يتخبطون لطلب التساوي في كل شيء، ويعانون إرهاقا لم يحصلوا منه على طائل.

وقد كان التمني من أعظم وسائل الجرائم، فإنه يفضي إلى الحسد، وقد كان أول جرم حصل في الأرض نشأ عن الحسد، ولقد كثر ما انتهبت أموال، وقتلت نفوس للرغبة في بسط رزق، أو فتنة نساء، أو نوال ملك، والتاريخ طافح بحوادث من هذا القبيل».

ثم بين أن النهي في الآية إما نهي تنزيه لتربية المؤمنين على أن لا يشغلوا نفوسهم بما لا قبل لهم بنواله، ويكون قوله: {واسألوا الله من فضله} إرشادا إلى طلب الممكن؛ إذ قد علموا أن سؤال الله ودعاءه يكون في مرجو الحصول، وإلا كان سوء أدب.

وإما نهي تحريم، وهو الظاهر من عطفه على المنهيات المحرمة، فيكون جريمة ظاهرة، أو قلبية كالحسد، بقرينة ذكره بعد قوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (النساء: 29)، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ }(النساء: 29).

     قال السعدي: «ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة, وغير الممكنة. فلا تتمنى النساء خصائص الرجال, التي بها فضلهم على النساء, ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكامل تمنيا مجردا؛ لأن هذا هو الحسد بعينه, تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك, ويسلب إياها، ولأنه يقتضي السخط على قدر الله, والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة, التي لا يقترن بها عمل, ولا كسب.

وإنما المحمود أمران: أن يسعى العبد على حسب قدرته, بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية. ويسأل الله تعالى من فضله.فلا يتكل على نفسه, ولا على غير ربه.

ولهذا قال تعالى : {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} (النساء: 32). أي: من أعمالهم المنتجة للمطلوب. {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ }(النساء: 32). فكل منهم لا يناله, غير ما كسبه, وتعب فيه. {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء: 32). أي: من جميع مصالحكم في الدين والدنيا.

فهذا كمال العبد, وعنوان سعادته, لا من يترك العمل, أو يتكل على نفسه, غير مفتقر لربه, أو يجمع بين الأمرين, فإن هذا مخذول خاسر».

فالمسلم يضبط مشاعره وسلوكه بضوابط الشرع، فلا يتمنى ما ليس له شرعا، ولا يضيع وقته في الأحلام المجردة والأمنيات الخيالية، بل يسعى جادا مستعينا بالله تعالى لتحقيقه مقاصده ومطلوباته، وبالله التوفيق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك