رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 9 نوفمبر، 2015 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}

لابد من الحذر من الرياء والرغبة في الثناء فالفرق دقيق، والمقصود هنا أن يسأل العبد ربه عملا صالحا نافعا، وأن يبقي له ذكرا حسنا،ينتفع به بعد موته

 

 

يكرم الله -تعالى- بعض الصالحين بجميل الذكر، وحسن الصيت، فيثني عليه الناس بالمآثر الطيبة، والأفعال الحميدة، وهذا أمر حسن إذا كان مخلصا لله -تعالى- في عمله نقيا من الشرك، بعيدا عن الرياء، فقد أخرج مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ».

قال النووي: «مَعْنَاهُ هَذِهِ الْبُشْرَى الْمُعَجَّلَة لَهُ بِالْخَيْرِ, وَهِيَ دَلِيل عَلَى رِضَاء اللَّه -تَعَالَى- عَنْهُ, وَمَحَبَّته لَهُ, فَيُحَبِّبهُ إِلَى الْخَلْق, ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض. هَذَا كُلّه إِذَا حَمِدَهُ النَّاس مِنْ غَيْر تَعَرُّض مِنْهُ لِحَمْدِهِمْ, وَإِلَّا فَالتَّعَرُّض مَذْمُوم».

     وقال ابن سعدي: «أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن آثار الأعمال المحمودة المعجلة أنها من البشرى، فإن الله وعد أولياءه -وهم المؤمنون المتقون- بالبشرى في هذه الحياة وفي الآخرة، ومن ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: إذا عمل العبد عملا من أعمال الخير، ولاسيما الآثار الصالحة والمشاريع الخيرية العامة النفع، وترتب على ذلك محبة الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له كان هذا من البشرى أن هذا العمل من الأعمال المقبولة، التي جعل الله فيها خيرا وبركة.

     ومن البشرى في الحياة الدنيا محبة المؤمنين للعبد لقوله تعالى :{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعلهم الرحمن ودا}(مريم: 96) أي: محبة منه لهم، وتحبيبا لهم في قلوب العباد.ومن ذلك الثناء الحسن؛ فإن كثرة ثناء المؤمنين على العبد شهادة منهم له، والمؤمنون شهداء الله في أرضه».

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أهل الجنة مَنْ ملأ الله أذنيه من ثناء الناس خيرا وهو يسمع، وأهل النار من ملأ أذنيه من ثناء الناس شرا وهو يسمع» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.

قال المناوي: «يحتمل أن معناه: من ملأ أذنيه من ثناء الناس خيراً عملُه، ومن ملأ من ثناء الناس شراً» عمله فكأنه قال: أهل الجنة من لا يزال يعمل الخير حتى ينتشر عنه فيثنى عليه بذلك وفي الشر كذلك.

     فإن قلت: ما فائدة قوله: «وهو يسمع» بعد قوله: «ملأ اللّه أذنيه»؟ قلت: قد يقال فائدته الإيمان إلى أن ما اتصف به من الخير والشر بلغ من الاشتهار مبلغاً عظيماً بحيث صار لا يتوجه إلى محل ويجلس بمكان إلا ويسمع الناس يصفونه بذلك فلم تمتلئ أذنيه من سماعه ذلك بالواسطة والإبلاغ بل بالسماع المستفيض المتواتر».

     وعن عبد الله قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا سمعت جيرانك يقولون أن قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت».أخرجه أحمد وصححه الألباني.

فحصول الثناء الحسن للإنسان بغير قصد منه ولا تعرض له أمر جائز بل هو بشرى خير له، وهنا يرد تساؤل وهو هل للمسلم أن يحب الثناء؟

     الأصل أن المسلم يقصد الإخلاص، ويحرص عليه، ويسأل الله -تعالى- العمل الصالح المفيد له وللآخرين حتى يعم نفعه، ويبقى أثره كما روى أشهب عن مالك أنه قال: «لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله تعالى; وقد قال الله تعالى: {ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ}(طه: 39) وقال:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا».

وقد دعا إبراهيم -عليه السلام- فقال: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}(الشعراء: 84) فدل على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل .

قال الطبري: وقوله: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} يقول: واجعل لي في الناس ذكرا جميلا وثناء حسنا، باقيا فيمن يجيء من القرون بعدي.

ونقل عن  ابن زيد في الآية الكريمة قال: «اللسان الصدق: الذكر الصدق، والثناء الصالح، والذكر الصالح في الآخرين من الناس».

وقال مجاهد وقتادة: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} يعني: الثناء الحسن، قال مجاهد: وهو كقوله تعالى: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}(العنكبوت: 27).

فيحرص المسلم على العمل الصالح وليس طلب الثناء من الناس،  قال ابن العربي: «في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن».

وأيضا جاء في دعاء عباد الرحمن أنهم قالوا: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}. قال الطبري: «معناه: واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات».

وقال البخاري في قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}: «أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا».

     وقال الحسن البصري: «من استطاع منكم أن يكون إماماً لأهله، إماما لحيه، إماماً لمن وراء ذلك؛ فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب». وقال إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة، بل بأن يكونوا قدوة في الدين. وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هدى، كما قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا}».

     وهذا الدعاء يدل على فقه عميق ونظر دقيق؛ إذ هو من العمل الصالح المستمر كما قال ابن كثير: فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع؛ وذلك أكثر ثوابا، وأحسن مآبا; ولهذا ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية».

     وقال الطاهر: سألوا لأنفسهم بعد أن وفقهم الله إلى الإيمان أن يجعلهم قدوة يقتدي بها المتقون؛ وهذا يقتضي أنهم يسألون لأنفسهم بلوغ الدرجات العظيمة من التقوى، فإن القدوة يجب أن يكون بالغا أقصى غاية العمل الذي يرغب المهتمون به الكمال فيه، وهذا يقتضي أيضا أنهم يسألون أن يكونوا دعاة للدخول في الإسلام، وأن يهتدي الناس إليه بواسطتهم.

     وعلى كل حال فلابد من الحذر من الرياء والرغبة في الثناء فالفرق دقيق، والمقصود هنا أن يسأل العبد ربه عملا صالحا نافعا، وأن يبقي له ذكرا حسنا،ينتفع به بعد موته، لا أن يعمل لأجل مدح الناس وثنائهم، قال ابن القيم: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فاقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح، سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه، وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك