رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 21 ديسمبر، 2015 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً

القرآن يحذر من التقليد الأعمى والموروثات الفاسدة فهي من أعظم أسباب الضلال وأكبر عوامل الإعراض عن الدين القويم

 

بين القرآن الكريم أن التقليد الأعمى من أهم العوائق التي تحول بين الإنسان والهداية، وأنه من أعظم أسباب الإعراض عن مناهج الأنبياء والمرسلين.

فقد جاء الإسلام وأهل الجاهلية يعظمون الآباء والأجداد، ولا يخرجون عما ورثوه عنهم من اعتقادات وأخلاق، ويعقابون من خالف تلك الموروثات التي أصبحت دينا يلتزمون به، ومنهجا يسيرون عليه، ولو ظهر لهم بطلانها، وأن الحق بخلافها.

     ولذلك حذر الإسلام من التعلق بالعادات الضالة، والتقليد الأعمى للآباء والعظماء، والإعراض عن الحق ولاسيما بعدما تبين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: التقليد المحرم بالنص والإجماع أن يعارض قول الله ورسوله بما يخالف ذلك كائنا من كان المخالف لذلك، قال الله تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلانا خليلا}(الفرقان: 27-28).

 وقد وردت آيات كثيرة تحذر من اتباع الأباء والأجداد في الإعراض عن الشرع المطهر والحق المبين.

     فعن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغبهم فيه، وحذرهم عقاب الله ونقمته، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرا منا؛فأنزل الله في ذلك: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}(البقرة: 170).

      قال ابن سعدي: «أخبر -تعالى- عن حال المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على رسوله رغبوا عن ذلك؛ وقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فاكتفوا بتقليد الآباء، وزهدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس وأشدهم ضلالا! وهذه شبهة لرد الحق واهية، فهذا دليل على إعراضهم عن الحق ورغبتهم عنه وعدم إنصافهم، فلو هدوا لرشدهم وحسن قصدهم، لكان الحق هو القصد، ومن جعل الحق قصده، ووازن بينه وبين غيره، تبين له الحق قطعا، واتبعه إن كان منصفا».

وقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}(المائدة: 104).

     قال ابن كثير: «أي: إذا دُعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه، وترك ما حرَّمه، قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد مِن الطَّرائق والمسالك، قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا} أي: لا يفهمون حقًا، ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتَّبعونهم والحالة هذه؟ لا يتَّبعهم إلَّا مَن هو أجهل منهم، وأضلُّ سبيلًا».

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}(الزخرف: 23).

. قال الطبري: «قوله:{إنا وجدنا آباءنا على أمة} قالوا: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين {وإنا على آثارهم} يعني: وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون بفعلهم نفعل كالذي فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون».

     قال ابن سعدي: «وهذا الاحتجاج من هؤلاء المشركين الضالين، بتقليدهم لآبائهم الضالين، ليس المقصود به اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض، يراد به نصرة ما معهم من الباطل؛ ولهذا فإن كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: {أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} أي: فهل تتبعوني لأجل الهدى؟ {قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} فعلم بهذا، أنهم ما أرادوا اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الباطل والهوى». وقالت عاد لهود عليه السلام: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}(الأعراف: 70). وأيضا قالت ثمود لصالح عليه السلام: {أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}(هود: 62).

ولما دعا إبراهيم عليه السلام أباه وقومه لتوحيد الله -تعالى- احتجوا بالتقليد لآبائهم كما قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُون. قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ.قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(الأنبياء: 52-54).

قال ابن كثير:«لم يكن لهم حُجَّة سوى صنيع آبائهم الضُّلَّال».

واعترض على موسى -عليه السلام- بذلك: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا}(يونس: 78). فجعلوا قول آبائهم الضَّالين حُجَّةً، يردُّون بها الحقَّ الذي جاء به موسى عليه السَّلام.

وقال -تعالى- عن مشركي العرب: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}(ص: 6-7). وقال مجاهد وقتادة: يعنون ملة قريش ودينهم الذي هم عليه.

     قال الشيخ ابن سعدي: «وانطلق الملأ منهم المقبول قولهم، محرضين قومهم على التمسك بما هم عليه من الشرك. أن امشوا واصبروا على آلهتكم أي: استمروا عليها، وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها وعلى عبادتها، ولا يردكم عنها راد، ولا يصدنكم عن عبادتها صاد.

     {ما سمعنا بهذا} القول الذي قاله، والدين الذي دعا إليه {في الملة الآخرة} أي: في الوقت الأخير، فلا أدركنا عليه آباءنا، ولا آباؤنا أدركوا آباءهم عليه، فامضوا على الذي مضى عليه آباؤكم، فإنه الحق، وما هذا الذي دعا إليه محمد إلا اختلاق اختلقه، وكذب افتراه، وهذه أيضا شبهة من جنس شبهتهم الأولى؛ حيث ردوا الحق بما ليس بحجة لرد أدنى قول، وهو أنه قول مخالف لما عليه آباؤهم الضالون، فأين في هذا ما يدل على بطلانه؟». ولهذا فإنهم يعتذرون يوم القيامة بهذا الأمر كما قال -سبحانه-: {وقالوا ربنا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}(الأحزاب: 67). قال ابن كثير: «قال طاوس: سادتنا: يعني الأشراف، وكبراءنا: يعني العلماء.

     أي: اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة، وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئا، وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء».قال ابن سعدي: «ولما علموا أنهم هم وكبراؤهم مستحقون للعقاب، أرادوا أن يشتفوا ممن أضلوهم، فقالوا: {ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} فيقول الله: لكل ضعف، فكلكم اشتركتم في الكفر والمعاصي، فتشتركون في العقاب، وإن تفاوت عذاب بعضكم على بعض بحسب تفاوت الجرم».

     وهل أهلك أبا طالب إلا تقليد الآباء؟ فعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُ -صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: «أَىْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ». فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ:» يَا أَبَا طَالِبٍ: تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَىْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : «لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ». فَنَزَلَتْ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}(التوبة: 113)، وَنَزَلَتْ: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} متفق عليه.

     ويبين عمرو بن العاص صورة من صور هذا التقليد المذموم، وذلك أن رجلا قال له: ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت أنت في عقلك؟ قال عمرو: «إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم يعني أباه ومن هم في طبقته، وكانوا ممن نوازي حلومهم الجبال. فلما بعث النبي [ فأنكروا عليه، قلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فإذا حق بين، فوقع في قلبي الإسلام».

فالقرآن يحذر من التقليد الأعمى والموروثات الفاسدة فهي من أعظم أسباب الضلال وأكبر عوامل الإعراض عن الدين القويم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك