رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 17 يناير، 2016 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن – لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة

 

لابد من وضع الأمور في نصابها، وتقديم ما حقه التقديم، فلا يقدم على الشرع المنزل رأي مهما علت منزلة قائله، ولا يلزم الناس بقول هو اجتهاد يحتمل الخطأ

 

يخلط بعض الناس بين الشريعة والفقه، فيعطي للفقه ما للشريعة من الإلزام ووجوب الالتزام، وينسب إلى الشريعة المنزلة ما قد يصدر عن بعض الفقهاء من اجتهادات غير موافقة للصواب، أو يلزم الناس بآراء بعض الفقهاء؛ لأنه يراها صوابا، ولهذا قال عمر-رضي الله عنه- كلمة نفيسة تدل على عمق الفهم للفرق الدقيق بين الشريعة والفقه فقال: «السنة ما سنه الله ورسوله، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة».

فالشريعة هي ما شرعه الله -تعالى- من العقائد والأعمال والأخلاق، فهي الدين المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أما الفقه فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلة، فهو بيان لجانب من الشريعة فيما يتعلق بأفعال المكلفين المتعلقة بالعبادات والمعاملات وأحكام الأسرة والجنايات ونحوها.

     ومعلوم أن الشريعة صواب لا خطأ؛ لأن الشريعة وحي من الله -تعالى- فهي معصومة ومحفوظة، أما الفقه فهو اجتهاد العلماء وهو عرضة للخطأ كما قال صلى الله عليه وسلم : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» أخرجه الشيخان عن عمرو بن العاص.

قال ابن عبد البر:»إِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ لا يَأْثَمُ إِذَا قَصَدَ الْحَقَّ وَكَانَ مِمَّنْ لَهُ الاجْتِهَادُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قَصْدِهِ الصَّوَابُ أَجْرٌ وَاحِدٌ إِذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ».

وقال ابن حجر: يشير الحديث إلى أنه لا يلزم من رد حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم كما تقدمت الإشارة إليه.

قال ابن المنذر: «وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد ، وأما إذا لم يكن عالما فلا». واستدل بحديث القضاة ثلاثة وفيه: «وقاض قضى بغير حق فهو في النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فهو في النار». أخرجه أصحاب السنن.

وقال الخطابي:»إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد فهو الذي نعذره بالخطأ،بخلاف المتكلف فيخاف عليه،ثم إنما يؤجر العالم؛ لأن اجتهاده في طلب الحق عبادة هذا إذا أصاب،وأما إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط».

     واستنباط الأحكام الفقهية من الأدلة الشرعية له مصادره ومناهجه التي وضعها الفقهاء لمنع الزلل في الاجتهاد، والبعد عن القول في الدين بالجهل أو التخرص أواتباع الهوى، ومن ذلك العلم بأن الأحكام الفقهية منها ما هو قطعي لا يحتمل الاختلاف كوجوب صلاة الفريضة وحرمة الزنا مثلا، ومنها ما هو ظني يحتمل الخلاف السائغ كسائر ما اختلف فيه الفقهاء لاختلاف مصادرهم في الاستدلال، وتنوع مناهجهم في الاستدلال، وهو باب واسع .

     والاجتهاد بالرأْي هو استنباط الأحكام الشرعية في ضوء قواعد مقررة، فهو ما يتوصل إليه المجتهد من الأحكام بعد نظر وتأمل في الأدلة الشرعية، ويغلب على ظنه أنه الصواب، وقد يكون صوابا في واقع الأمر فهو مأجور مرتين كما تقدم، وقد يخالف الصواب، فهو مأجور ومعذور، وليس لنا أن نتابعه فيما ظهر لنا من خطئه.

     نقل ابن عبد البر عن مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أنه قال: «إِنَّمَا عَلَى الْحَاكِمِ الاجْتِهَادُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الرَّأْيُ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ فِي رَأْيٍ عَلَى حَقِيقَةِ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ الاجْتِهَادُ». ونقل عن الإمام مَالِكَ أنه قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أُخْطِئُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي، فَكُلَّمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلَّمَا لَمْ يُوَافِقِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ, فَاتْرُكُوهُ». وكَانَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ: «لَيْسَ عِنْدِي فِيهِ إِلا رَأْيٌ أَتَّهِمُهُ» فَيُقَالُ لَهُ: قُلْ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ بِرَأْيِكَ، فَيَقُولُ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ رَأْيِي يَثْبُتُ لَقُلْتُ فِيهِ ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ أَرَى الْيَوْمَ رَأْيًا وَأَرَى غَدًا غَيْرَهُ ، فَأَحْتَاجُ أَنْ أَتْبَعَ النَّاسَ فِي دُورِهِمْ» .

عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلا سَأَلَه عَنْ شَيْء فَقَالَ لَهُ: «لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا بِشَيْءٍ» فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي أَرْضَى بِرَأْيِكَ, فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: «لَعَلِّي أَنْ أُخْبِرُكَ بِرَأْيِي ثُمَّ تَذْهَبُ فَأَرَى بَعْدَكَ رَأْيًا آخَرَ غَيْرَهُ فَلا أَجِدُكَ».

     ويبين ابن القيم أنواع الرأي والموقف من كل منها فيقول: «الرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه، والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح، وعملوا به وأفتوا به، وسوغوا القول به، وذموا الباطل، ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله،والقسم الثالث: سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه؛ حيث لا يوجد منه بد، ولم يلزموا أحدا العمل به، ولم يحرموا مخالفته، ولا جعلوا مخالفه مخالفا للدين، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده; فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه كما قال الإمام أحمد : سألت الشافعي عن القياس فقال لي: عند الضرورة».

ثم ذكر أن الرأي الباطل أنواع منها:

- أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد.

- النوع الثاني: هو الكلام في الدين بالخرص والظن، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها؛ فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم، من غير نظر إلى النصوص والآثار فقد وقع في الرأي المذموم الباطل .

- النوع الثالث: الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم.

- النوع الرابع: الرأي الذي أحدثت به البدع، وغيرت به السنن.

- النوع الخامس: القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون،  والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع بعضها على بعض قياسا، دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها، فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل، وفرعت وشققت قبل أن تقع، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن، قالوا: وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن، والبعث على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه».

     وقال رحمه الله: «والمقصود أن السلف جميعهم على ذم الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة، وأنه لا يحل العمل به لا فتيا ولا قضاء، وأن الرأي الذي لا يعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه».

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمة ولا إجماعا باتفاق المسلمين بل قد ثبت عنهم أنهم نهوا الناس عن تقليدهم، وأمروا إذا رأوا قولا في الكتاب والسنة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم».

     فلابد من وضع الأمور في نصابها، وتقديم ما حقه التقديم، فلا يقدم على الشرع المنزل رأي مهما علت منزلة قائله، ولا يلزم الناس بقول هو اجتهاد يحتمل الخطأ، فلا مزية لاجتهاد على اجتهاد، وإنما العبرة بقوة الدليل وثبوته، لا بمنزلة القائل وكثرة أتباعه، قال عبد الله بن المبارك: «رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه الهفوة والزلة لا يُقتدى به في هفوته وزلته».

وقال الإمام مالك :» ليس كل ما قال رجل قولا – وإن كان له فضل – يتبع عليه لقول الله -عز وجل-: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}(الزمر: 18).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك