رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 1 أبريل، 2014 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- {قل الروح من أمر ربي}

شيخ الإسلام ابن تيمية: والروح المدبرة للبدن هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت

أقام الله تعالى آيات كثيرة، وشواهد عديدة على تفرده بالخلق والملك والتدبير، وأنه سبحانه وحده المستحق للعبادة والألوهية، فالآيات الكونية، والبراهين الحسية ناطقة بذلك، ومن أعظم الحجج وأقوى الدلائل الإنسان نفسه، كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(الذاريات: 21)، قال الطبري: «معنى ذلك: وفي أنفسكم أيها الناس آيات وعبر تدلكم على وحدانية صانعكم، وأنه لا إله لكم سواه؛ إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم (أفلا تبصرون) يقول: أفلا تنظرون في ذلك فتتفكروا فيه، فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم»؟!

     والإنسان كما هو معلوم مركب من بدن وروح، وقد وقف كثير من العلماء على أسرار كثيرة من بدن الإنسان، ولا يزال يخفى عليهم الكثير من عجيب صنع الله -تعالى- وكمال قدرته، إلا أن السر الأعظم لا يزال خافيا عليهم وهو حقيقة الروح التي تقوم بهذا البدن، وبفقدها يفقد الإنسان وجوده، فقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}(الإسراء: 85).

قال ابن كثير: «وقوله: {قل الروح من أمر ربي} أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى.

والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى».

     ويوضح الطاهر بن عاشور سبب سؤالهم عن حقيقة الروح، وبيان ماهيتها؛ وذلك لأنها شغلت الفلاسفة وحكماء المتشرعين، لظهور أن في الجسد الحي شيئا زائدا على الجسم، به يكون الإنسان مدركا، وبزواله يصير الجسم مسلوب الإرادة والإدراك، فعلم بالضرورة أن في الجسم شيئا زائدا على الأعضاء الظاهرة والباطنة غير مشاهد؛ إذ قد ظهر بالتشريح أن جسم الميت لم يفقد شيئا من الأعضاء الباطنة التي كانت له في حال الحياة.

     وإذ قد كانت عقول الناس قاصرة عن فهم حقيقة الروح، وكيفية اتصالها بالبدن، وكيفية انتزاعها منه، وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع، أجيبوا بأن الروح من أمر الله، أي أنه كائن عظيم من الكائنات المشرفة عند الله، ولكنه مما استأثر الله بعمله، فلفظ (أمر) يحتمل أن يكون مرادف الشيء، فالمعنى: الروح بعض الأشياء العظيمة التي هي لله، فإضافة أمر إلى اسم الجلالة على معنى لام الاختصاص، أي أمر اختص بالله اختصاص علم.

     ويرى رحمه الله أن صرف السائلين عن الجواب عن حقيقة الروح كان لغرض صحيح اقتضاه حالهم، وحال زمانهم ومكانهم، وأن ذلك لا يمنع من البحث في حقيقة الروح كما ذهب إليه جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء، منهم أبو بكر بن العربي في العواصم، والنووي في شرح مسلم أن هذه الآية لا تصد العلماء عن البحث عن الروح; لأنها نزلت لطائفة معينة من اليهود، ولم يقصد بها المسلمون.

     و(الروح) تطلق في القرآن الكريم ويراد بها تارة القرآن كما قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}(الشورى: 52)، وتطلق على الوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله كما قال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ}(غافر: 15)، وسمي روحا لما يحصل به من الحياة النافعة، وتطلق الروح على جبريل عليه السلام كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}(الشعراء: 193)، وتطلق الروح على النفس التي في بدن الإنسان وذلك لحصول الحياة بها، وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج؛ فلكثرة خروجها ودخولها في البدن، فإن العبد كلما نام خرجت منه، فإذا استيقظ رجعت إليه، فإذا مات خرجت خروجا كليا، فإذا دفن عادت إليه، فإذا سئل خرجت، فإذا بعث عادت إليه.

     و(النفس) في القرآن الكريم والسنة المطهرة يراد بها الذات الإنسانية، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}(آل عمران: 30)، وفي الحديث:  «ما من نفس تموت وهي تشهد أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله، يرجع ذلك إلى قلب موقن، إلا غفر الله له» أخرجه ابن ماجه، وحسنه للألباني.

     والقرآن الكريم يخاطب الناس مبينا لهم مبدأ نفوسهم فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}(النساء: 1)، وذكر لهم مصير أنفسهم فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا}(آل عمران: 145)، وأكد سبحانه أن النفس الإنسانية هي محور التكاليف الشرعية كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(البقرة: 286)، وبين أن جزاء الأنفس يوم القيامة بحسب ما قدمت في الدنيا فقال تعالى: {اللَّـهُ كُلَّ نَفسٍ ما كَسَبَت إِنَّ اللَّـهَ سَريعُ الحِسابِ}(إبراهيم: 51).

     والنفس الإنسانية فطرها الله تعالى على قبول الحق والانقياد له، كما أنها تتأثر بالباطل وتنساق له كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا - َدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا  وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}(الشمس: 7 - 10)، فترتقي النفس الإنسانية إذا اتبعت هدى الله إلى أعلى الدرجات، وتنحط إذا أعرضت عن دينه إلى أسفل الدركات.

     وقد اختلف العلماء في حقيقة النفس، فهل هي الروح؟ أم هي غيرها؟ والأظهر من تلك الأقوال ما قرره شارح العقيدة الطحاوية فقال: «فالتحقيق أن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما يسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها».

     وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والروح المدبرة للبدن هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت»، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}(الزمر: 42)، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» أخرجه مسلم، مما يؤكد أن النفس هي الروح التي تكون في البدن وتقبض عند الموت.

     وأما حقيقة الروح التي في البدن فقد اختلف فيها اختلافا كثيرا، وأحسن ما قيل في ذلك ما ذكره ابن القيم في كتابه الروح؛ حيث ساق ستة أقوال نقلها عن الرازي واختار آخرها وقال: «السادس: إنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني، علوي، خفيف، حي، متحرك ينفذ في الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء، وإفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية.

وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح».

قال رحمه الله: «وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب السنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة»، ثم أورد رحمه الله مائة واثنين وعشرين وجها على صحة ما ذكر.

وقال رحمه الله : «فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك