رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 7 أكتوبر، 2013 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- ساعة وساعة

 

يذهب بعض المسلمين - هداهم الله تعالى -ـ إلى تقسيم أوقاتهم، وتوزيع ساعاتهم إلى أوقات للطاعة وأخرى للمعصية، وساعة لله بزعمهم، وساعة لقلوبهم، مستدلين بحديث: «روحوا القلوب ساعة بساعة»، وهو حديث ضعيف كما قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الضعيفة والموضوعة، وربما رفع بعضهم شعار: (ساعة لقلبك وساعة لربك)، ثم نسبوا ذلك الشعار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً، ولا يخفى على من تأمل هذه الكلمات ما فيها من الانحراف العقدي والجرأة على الله تعالى؛ حيث أوهم هذا اللفظ أن القلب ند لله تعالى، له حظ من وقت العبد ونصيب من حياته كما لله تعالى.

     والقرآن الكريم يؤكد أن حياة المسلم كلها لله تعالى كما قال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿162﴾لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، (الأنعام:162-163) قال الشيخ ابن سعدي: ومن أخلص في صلاته ونسكه استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله، وقوله: {ومحياي ومماتي} أي: ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليّ في مماتي الجميع لله رب العالمين لا شريك له في العبادة، كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير، وليس هذا الإخلاص لله ابتداعا مني، وبدعا أتيته من تلقاء نفسي، بل بذلك أمرت أمرا حتما، لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله{وأنا أول المسلمين} من هذه الأمة.

     وسبب انتشار هذا المفهوم الخطأ لدى بعض المسلمين هو فهمهم المغلوط لحديث حنظلة المشهور بحديث (ساعة وساعة)، وحملهم الحديث على غير المقصود الشرعي، وتأولهم له على غير الهدي النبوي.

 فقد روى مسلم عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده؛ أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة». ثلاث مرات».

     فسبب ورود الحديث هو خوف حنظلة وأبي بكر رضي الله عنهما من النفاق لما يجدونه من اختلاف أحوالهم الإيمانية بين أن يكونوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  وعندما يكونون مع أهليهم وما يتبع ذلك من المخالطة المباحة، وليس في الحديث ما يدل على تهاونهم في الطاعات، أو جرأتهم على المعاصي تحت ذريعة (ساعة وساعة).

     قال النووي رحمه الله :قوله: «نافق حنظلة» معناه: أنه خاف أنه منافق؛ حيث كان يحصل له الخوف في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك نفاقا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك».

وقال القاضي عياض: فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن الحال منهم لا يقتضي بقاءهم على وتيرة واحدة، وأن مثل هذا ليس بنفاق.

     فالحديث من أدلة التوازن الشرعي المطلوب من المسلم؛ حيث لا يقدم مستحب على واجب، ولا يؤدي واجب إلى ضياع ما هو أوجب منه، ويدل على لزوم مراعاة الفطرة الإنسانية، وتلبية الحاجات البشرية وفق الأحكام الشرعية دون إفراط أو تفريط، ولا غلو أو تقصير.

     فقوله صلى الله عليه وسلم : «ساعة وساعة»، يوضحه الشيخ ابن عثيمين بقوله: يعني ساعة للرب -عز وجل-، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها ، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم .

     وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها، أن الله عز وجل له حق فيعطي لله حقه -عز وجل-، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها، وللأهل حق فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله عزوجل براحة؛ لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها تعب، وأضاع حقوقاً كثيرة .

     وهذا كما يكون في العبادة وفي حقوق النفس والأهل والضيف، يكون كذلك أيضاً في العلوم، فإذا طلب الإنسان العلم ورأى في نفسه مللاً في مراجعة كتاب ما، فلينتقل إلى كتاب آخر، وإذا رأى من نفسه مللاً من دراسة فن معين، فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر، وهكذا يريح نفسه، ويحصل علماً كثيراً، أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف، إلا ما شاء الله؛ فإن بعض الناس يكره نفسه على المراجعة والمطالعة والبحث مع التعب، ثم يأخذ عليه ويكون هذا دأبا له، ويكون ديدناً له، حتى إنه إذا فقد هذا الشيء ضاق صدره، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

     والأدلة الشرعية على هذا الأصل كثيرة منها قوله تعالى في صفة عباد الرحمن:{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67)، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء:29).

     وقال سبحانه مبينا المنهج المعتدل:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(القصص:77).

      قال ابن كثير: أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا ولِزَوْرك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه.

قال الشيخ ابن سعدي: واستمتع بدنياك، استمتاعا لا يثلم دينك، ولا يضر بآخرتك.

     وذكر البخاري عن أبي حجيفة قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء وهي زوجة متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال له: كل فإني صائم فقال :ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم .فنام ،ثم ذهب ليقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «صدق سلمان».

     قال الحافظ ابن حجر: «وإن لنفسك عليك حقا» أي: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباحه الله للإنسان من الأكل والشرب والراحة التي يقوم بها بدنه ليكون أعون على عبادة ربه.

     وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم التوازن والتكامل بين الواجبات والحاجات، فعن أنس قال: جاء ثلاثة نفر إلى أبيات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأنا اصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه.

     قال القرطبي في المفهم: في حديث أبي ذر: «وعلى العاقل أن يكون له ساعات؛ ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب»، وهكذا الكمال، وما عداه ترهات وخيال.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك