رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 17 فبراير، 2014 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- داووا مرضاكم بالصدقة


لا يعني التداوي بالصدقة إهمال بقية الوسائل من الاستشفاء بالقرآن والدعاء والرقية الشرعية، والأخذ بالأسباب المادية من الأدوية وغيرها

 

يستغرب بعض الناس عندما يسمع هذا الحديث: «داووا مرضاكم بالصدقة»، ويتساءل عن المناسبة بين الصدقة وهي عبادة مالية لها أجر في الآخرة، والشفاء وهو أمر حسي يتعلق بالأبدان في الدنيا.

وقبل إزالة الإشكال، ودفع الالتباس لابد من بيان حقيقة شرعية وهي علاقة الأسباب بالمسببات، وارتباط الوسائل بالنتائج، والموقف الشرعي من ذلك.

     دل القرآن الكريم على أن كل شيء يحدث بسبب، فربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها قانون عام شامل لكل ما في العالم، ولكل ما يحصل للإنسان في الدنيا والآخرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات».

والأسباب التي تؤدي إلى مسبباتها ونتائجها قد تكون مادية عادية، وقد تكون معنوية روحية.

     فالأسباب المادية العادية هي التي عرف كونها سببا بالتجارب وتكرار نشوء أشياء عن أخرى، فحكم بأنها مسببة عنها عادة بتقدير الله لا بنفسها استقلالا؛ مثل حرث الأرض وسقيها وزرعها طلبا للحبوب والثمار، وكالأدوية سبب لعلاج الأمراض، فهذه أسباب عادية ينشأ عنها مسبباتها بتقدير من الله، فإذا وجد السبب التام وانتفت الموانع ترتب عليه مسببه (نتيجته) بإذن الله وتقديره لا استقلالا.

     فمن الأسباب المادية قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } (البقرة:22)، فنزول المطر سبب بإذن الله تعالى لخروج النبات والزروع من الأرض، وقال تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} (النحل:72)، فالزواج والوطء سبب لحصول الأولاد والذرية بإذن الله تعالى، وهكذا بقية الأسباب التي يباشرها الناس لتحصيل مصالحهم.

     أما الأسباب المعنوية الروحية فمصدر معرفتها الشرع، كالرقى والأذكار الشرعية، واللجوء إلى الله وصدق التوكل عليه، والدعاء لتفريج كربة وشفاء مرض، وغير ذلك من الشدائد، قال ابن القيم: «ومن أعظم العلاج فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع إلى الله والتوبة، وتأثيره أعظم من الأدوية، لكن بحسب استعداد النفس وقبولها».

     فهذه الأسباب المعنوية قد وردت الأدلة بِعَدِّها أسبابا لجلب نفع ودفع ضر، فمن الأسباب المعنوية قوله تعالى: {  إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا} (الأنفال:29)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطلاق:2)، وقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌﭳ} (إبراهيم:7)، وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {فقُلْتُ اسْتغْفِرُوا ربّكُمْ إِنّهُ كان غفّارا (10) يُرْسِلِ السّماء عليْكُمْ مِدْرارا (11) ويُمْدِدْكُمْ بِأمْوالٍ وبنِين ويجْعلْ لكُمْ جنّاتٍ ويجْعلْ لكُمْ أنْهارا} (نوح:10-12)، ونحوها من آيات تدل على أن الطاعة سبب لحصول الرزق والبركة في الدنيا قبل الآخرة.

     وكذلك فإن الأحكام الأخروية مرتبطة بالأسباب؛ فدخول الجنة متوقف على الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزخرف:72)، ودخول النار بسبب الكفر والمعاصي كما قال تعالى: {وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْد بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ  } (السجدة:14).

     والأحكام الشرعية الدنيوية مرتبطة بالأسباب أيضا قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (المائدة:38)، وقال تعالى: {  كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (البقرة:178)، مما يدل على أن أفعال العباد سبب لثبوت الأحكام الشرعية في الدنيا.

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الدواء وهو سبب للشفاء بإذن الله فقال صلى الله عليه وسلم : «تداووا عباد الله ولا تداووا بحرام»، وسأله بعض الصحابة: «أرأيت رقى نسترقي بها وتقى نتقي بها وأدوية نتداوى بها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله».

     ومن هنا يأتي هذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «داووا مرضاكم بالصدقة» وهو حديث حسنه الألباني في صحيح الجامع، وهو يدل على أن الصدقة سبب معنوي لشفاء الأمراض، قال المناوي: «إن الصدقة دواء منجح، ونبه بها على أخواتها من القرب كعتق وإغاثة لهفان وإعانة مكروب»، وقال أيضا: «وهذا هو الطب الحقيقي الذي لا يخطئ، ولكن لا يظهر نفعه إلا لمن رق حجابه، وكمل استعداده ولطفت بشريته».

وقال الإمام ابن القيم: «فإن للصدقة تأثيرا عجيبا في دفع البلاء، ولو كانت من فاجر أو ظالم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه».

     وقال أيضا: «هاهنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة، والدعاء، والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه، وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمور كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية».

     والصدقة سبب للشفاء كما ورد في السنة، لكن لكل سبب شروط وموانع، قال الشاطبي: «وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغي، ولا استكملت شرائطها، ولم تنتف موانعها فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أم أبي، لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره، وأيضا فإن الشارع لم يجعلها أسبابا مقتضية لمسبباتها إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها».

     وقال شيخ الإسلام: «فلابد من تمام الشروط وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وليس شيء من الأسباب مستقلا بمطلوبه، بل لابد من انضمام أسباب أخرى إليه، ولابد أيضا من صرف الموانع ومعارضات عنه حتى يحصل المقصود، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك».

ولاشك أن أهم شروط الصدقة الإخلاص، وطيب الكسب، وتكون في أنفع المصالح للمحتاجين.

     ولا يعني التداوي بالصدقة إهمال بقية الوسائل من الاستشفاء بالقرآن والدعاء والرقية الشرعية، والأخذ بالأسباب المادية من الأدوية وغيرها، لكن المريض قد يحتاج الجمع بين أكثر من طريقة، والمسلم مأمور بالأخذ بالأسباب المشروعة مع الاعتقاد بأن النتائج تقع بإذن الله، فالله سبحانه قدر النتائج بأسبابها، فهو خالق السبب وما ينتج عنه، وذلك كله من قدره سبحانه، فهو سبحانه قدر أن يكون الشفاء من الأمراض بأسبابها من الأدوية والصدقة والدعاء ونحوها، وحصول الرزق بطلبه، ودخول الجنة بالإيمان والعمل الصالح، وطول العمر بصلة الرحم والدعاء والمحافظة على الصحة وفعل البر ونحو ذلك.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك