رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 19 يونيو، 2014 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- المؤمن غِــرٌّ كريم


جاء الإسلام ليهذب الأخلاق ويزكي النفوس، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة: 2).

فالدين يريد من المسلم أن يكون محمود الشمائل، كريم الأخلاق، سليم الصدر، إلا إن ذلك لا يعني أن يكون غافلا أو مغفلا، بل عليه أن يكون -مع حسن خلقه- حصيفا، وافر اللب، مستحكم العقل، كيـّسا فطنا.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خبٌّ لئيم» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني.

     قال في الشرح: «(المؤمن غر): بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء (كريم): أي: موصوف بالوصفين أي له الاغترار لكرمه (والفاجر): أي الفاسق (خب): بفتح خاء معجمة وتكسر وتشديد موحدة أي يسعى بين الناس بالفساد، والتخبب إفساد زوجة الغير أو عبده (لئيم): أي بخيل لجوج سيئ الخلق».

     قال الخطابي موضحا معنى الحديث: «إن المؤمن المحمود هو من كان طبعه وشيمته الغرارة وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه، وأن ذلك ليس منه جهلا لكنه كرم وحسن خلق، وأن الفاجر هو من كانت عادته الخب والدهاء والوغول في معرفة الشر، وليس ذلك منه عقلا ولكنه خب ولؤم».

وقال ابن الأثير: «المؤمن غر كريم أي ليس بذي مكر فهو ينخدع لانقياده ولينه، وهو ضد الخب، يقال فتى غر وفتاة غر».

     وقال المناوي: «(المؤمن غِرٌّ) أي: يغُرُّه كلُّ أحد، و يغُرُّه كلُّ شيء، ولا يعرف الشَّرَّ، وليس بذي مَكْر ولا فطنة للشَّرِّ، فهو يَنْخَدع لسَلَامة صَدْره، وحسن ظنِّه، وينخَدع لانقياده ولينه. (كريم) أي: شريف الأخلاق (والفاجر) أي: الفاسق (خبٌّ لئيم) أي: جريء، فيسعى في الأرض بالفساد، فالمؤمن المحمود: من كان طبعه الغَرَارة، وقلَّة الفِطْنة للشَّرِّ، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلًا، والفاجر من عادته الخُبث والدَّهاء والتَّوغل في معرفة الشَّرِّ، وليس ذا منه عقلًا».

     وقال الطاهر بن عاشور: «وفي الحديث: «المؤمن غر كريم» أي: من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله، فإن الإيمان يزيد الفطنة؛ لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة، ألا ترى إلى قوله: «والسعيد من وعظ بغيره» مع قوله: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله، وأما معنى: «المؤمن غر كريم» فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية».

     ومن الأحاديث التي تحث على سلامة الصدر وحسن النية وسلامة الدخيلة ما رواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «أي النَّاس أفضل؟ قال: «كلُّ مَخْموم القلب، صدوق اللِّسان». قالوا: صدوق اللِّسان نعرفه، فما مَخْموم القلب؟ قال: «هو النَّقيُّ التَّقيُّ، لا إثم عليه، ولا بَغْي ولا غلٌّ ولا حسد».أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.

فهذا الحديث يدل على فضل سلامة الصدر وحسن الظن وطيب القلب وصدق الحديث، وأن اشتمال النفس على الإثم والبغي والغل والحسد أمر مذموم ينبغي على المسلم التوقي منه والعمل على تزكية نفسه وتطهيرها منه.

ولا بد من التفريق بين سلامة الصدر وبلادة الحس وقلة العقل وسوء التدبير، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فالقلب السَّليم المحمود، هو الذي يريد الخير لا الشَّر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشَّر، فأمَّا من لا يعرف الشَّر، فذاك نقص فيه لا يُمدح به».

وقال ابن القيِّم: «والفرق بين سَلَامة القلب والـبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيَسْلَم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف الـبَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهذا لا يُحْمد؛ إذ هو نقص، وإنَّما يَحْمد النَّاس من هو كذلك؛ لسَلَامتهم منه، والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشَّرِّ، سليمًا من إرادته، قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه : «لست بِخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ». وكان عمر أعقل من أن يُخْدع، وأورع من أن يَخْدع، وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء: 88-89)، فهذا هو السَّليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشُّبهة التي توجب اتِّباع الظَّنِّ، ومرض الشَّهوة التي توجب اتِّباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السَّليم الذي سَلِم من هذا وهذا».

وقد وصف الله تعالى المؤمنين بأنَّهم يقولون: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 10).

     قال ابن عاشور: «أي سألوا الله أن يطهر نفوسهم من الغل والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطوه من فضيلة صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم  - وما فضل به بعضهم من الهجرة وبعضهم من النصرة، فبين الله للذين جاؤوا من بعدهم ما يكسبهم فضيلة ليست للمهاجرين والأنصار، وهي فضيلة الدعاء لهم بالمغفرة وانطواء ضمائرهم على محبتهم وانتفاء البغض لهم، والمراد أنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضون أنفسهم عليه. وقد دلت الآية على أن حقا على المسلمين أن يذكروا سلفهم بخير، وأن حقا عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعظيمهم».

     ولفضل سلامة الصدر ينعم الله تعالى به  على أهل الجنة إذا دخلوها قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ  وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ  وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف: 43).

 وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} (الحجر: 47).

     قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وصف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد وغمر وعداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض، فجعلهم في الجنة إذا أدخلوها على سرر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم وفضله من كرامته عليه ، تجري من تحتهم أنهار الجنة».

     ففي هذا الزمن الذي كثر فيه الغش والخداع، وافتخر بعض الناس وجاهر بدهائه وقدرته على استغفال الناس وخداعهم، حتى صار سوء الظن هو الأصل، والخداع هو المتوقع، نحتاج إلى إحياء تلك القيم الجميلة، والمبادئ الرفيعة التي دعا إليها الدين وحث عليها، من سلامة الصدور وحسن الظن ونقاء القلوب ، وبالله التوفيق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك