رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 11 مارس، 2014 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- الرحم شجنة من الرحمن


أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال

 

خلق الله تعالى الإنسان من والدين، وجعل له أقارب وأرحاما، وأوجب عليه بر والديه، وشرع له صلة رحمه، ولعظم صلة الرحم نسبها الله تعالى إلى نفسه، ووردت نصوص كثيرة بالأمر بصلتها وبيان فضل ذلك، كما أنها تحرم قطع الرحم وتؤكد عقوبة ذلك أيضا.

والرحم في اللغة: رحم المرأة، ومنه استعير الرحم للقرابة؛ لكونهم خارجين من رحم واحدة كما يقول الأصبهاني.

وأما صلة الرحم فمعناها كما يقول النووي: «هي الإحسان إلى الأقارب على حسب الواصل والموصول؛ فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالخدمة، وتارة تكون بالزيارة والسلام وغير ذلك».

     وأما حكم صلة الرحم فقد قال القاضي عياض: «لا خلاف أنّ صلة الرّحم واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة والأحاديث تشهد لهذا، ولكنّ الصّلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة بالكلام ولو بالسّلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة فمنها واجب، ومنها مستحبّ. ولو وصل بعض الصّلة، ولم يصل غايتها لا يسمّى قاطعا، ولو قصّر عمّا يقدر عليه وينبغي له لا يسمّى واصلا».

والمعنى الجامع لصلة الرحم كما يوضحه ابن حجر بأنه: «إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الحاجة»، وأقل الخير الصلة بالسلام كما قال صلى الله عليه وسلم : «بلوا أرحامكم ولو بالسلام» أخرجه البزار وحسنه الألباني.

     وقال الخطابي وغيره: «بللت الرحم بلا وبللا وبلالا أي: نديتها بالصلة». وقال الطيبي في معنى الحديث: «شبه الرحم بالأرض التي إذا وقع عليها الماء وسقاها حق سقيها أزهرت ورؤيت فيها النضارة فأثمرت المحبة والصفاء، وإذا تركت بغير سقي يبست وبطلت منفعتها فلا تثمر إلا البغضاء والجفاء».

ومن الآيات التي تقرر أهمية صلة الرحم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(النساء: 1).

     قال ابن سعدي: «افتتح تعالى هذه السورة, بالأمر بتقواه, والحث على عبادته, والأمر بصلة الأرحام, والحث على ذلك. وقرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام, والنهي عن قطيعتها, ليؤكد هذا الحق، وأنه كما يلزم القيام بحق الله, كذلك يجب القيام بحقوق الخلق, ولاسيما الأقربين منهم, بل القيام بحقوقهم, هو من حق الله الذي أمر به».

وقال تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(الأنفال: 75).

قال ابن عاشور: «فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء ولاية الإيمان، وأولو الأرحام منهم بعضهم لبعض أولياء ولاية النسب، ولولاية الإسلام حقوق مبينة بالكتاب والسنة، ولولاية الأرحام حقوق مبينة أيضا، بحيث لا تزاحم إحدى الولايتين الأخرى».

     وصلة الرحم مما أمر به الله تعالى كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}(الرعد: 21). قال القرطبي: «ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات»، وقال صلى الله عليه وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه» أخرجه البخاري.

     وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}(محمد: 22). قال ابن كثير: «وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال».

     ومما جاء في السنة في بيان صلة الرحم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرحم شجنة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته» أخرجه البخاري، وفي رواية الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله».

قال ابن حجر: «الشجنة بكسر المعجمة وسكون الجيم، وجاء بضم أوله، وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، والشجن بالتحريك واحد الشجون، وهي طرق الأودية، ومنه قولهم: «الحديث ذو شجون» أي: يدخل بعضه في بعض.

وقوله: (من الرحمن) أي: أخذ اسمها من هذا الاسم، وفي حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا: «أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي» المعنى أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها، فالقاطع لها منقطع من رحمة الله».

     وعن أبي هريرة أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: «خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فقال: مه ؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك»، ثم قال أبو هريرة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}(محمد: 22). متفق عليه.

وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله». أخرجه مسلم.

     قال القرطبي: «فمقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من صلى الصبح فهو في ذمة الله، وإن من يطلبه الله بشيء من ذمته يدركه ثم يكبه على وجهه في النار» أخرجه مسلم.

ومن فضل صلة الرحم أنها سبب لزيادة العمر بإذن الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم  : «من سره أن يُبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه». متفق عليه.

     قال ابن سعدي: «هذا الحديث فيه الحث على صلة الرحم، وبيان أنها كما أنها موجبة لرضى الله وثوابه في الآخرة، فإنها موجبة للثواب العاجل بحصول أحب الأمور للعبد، وأنها سبب لبسط الرزق وتوسيعه، وسبب لطول العمر، وذلك حق على حقيقته؛ فإنه تعالى هو الخالق للأسباب ومسبباتها.وقد جعل الله لكل مطلوب سببا وطريقا ينال به، وهذا جار على الأصل الكبير، وأنه من حكمته وحمده جعل الجزاء من جنس العمل، فكما وصل رحمه بالبر والإحسان المتنوع، وأدخل على قلوبهم السرور، وصل الله عمره، ووصل رزقه، وفتح له من أبواب الرزق وبركاته ما لا يحصل له بدون هذا السبب الجليل».

ومما جاء في التحذير من قطيعة الرحم قوله عليه السلام: «لا يدخل الجنة قاطع رحم» متفق عليه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» أخرجه أحمد وصححه الألباني.

وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» أخرجه البخاري.

قال الطيبي: «المعنى ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه».

     قال ابن حجر: «لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات: واصل ومكافئ وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل. وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا».

فعلى المسلم أن يحرص على صلة رحمه والحذر من القطيعة وبالله التوفيق

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك