رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 30 ديسمبر، 2013 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- الدعاء هو العبادة (1-2)

 

العبودية معنى عظيم، ومفهوم كبير، أساسها الانقياد لله تعالى وحده حبا وخوفا ورجاء، ومظاهرها متعددة وصورها متنوعة، يجمعها التذلل لله تعالى وإظهار الافتقار إليه، والاعتماد عليه سبحانه وتعالى.

والدعاء من أبرز مظاهر العبودية؛ إذ تتجلى فيه الرغبة والرهبة، والمحبة والإخلاص، والخوف والرجاء، لذا أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدعاء وحثهم على الاستكثار منه فقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر: 60).

     قال ابن كثير: «هذا من فضله -تبارك وتعالى- وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة»، كما كان سفيان الثوري يقول: «يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب».

     وأخرج الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر: 60).

     وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «من لم يدع الله يغضب عليه»،؛ لأن كل الخلق مفتقرون إلى الله تعالى، محتاجون إلى فضله وإنعامه، فعدم السؤال يدل على الاستغناء عن فضل الله تعالى، وهو أمر لا يليق بالعبد الفقير الضعيف، فمن فعله استحق الغضب.

     ويوضح الراغب الأصفهاني إطلاقات لفظ الدعاء في القرآن فيقول: «والدعاء يطلق بمعنى النداء، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}(الإسراء: 52). ويطلق بمعنى التسمية، تقول: دعوت ابني زيدا أي: سميته، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}(النور: 63)، حثا على تعظيمه، فلا يقال: يا محمد. والدعاء بمعنى السؤال، تقول: دعوت الله تعالى، أي: سألته، قال تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}(البقرة: 69). والدعاء إلى الشيء بمعنى الحث على قصده، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ}(يونس: 25). ويطلق الدعاء بمعنى القول، كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا}(الأعراف: 5)، أي: قولهم. والدعاء بمعنى العبادة، قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا}(الأنعام: 71).

     وفي السنة يطلق الدعاء على أمور منها: الدعاء بمعنى النداء كقوله صلى الله عليه وسلم : «تداعت عليكم الأمم»، والدعاء بمعنى الإدعاء في النسب، كقوله: «ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه» وهل ينتسب الإنسان لغير أبيه؟ والدعاء بمعنى السؤال كقوله صلى الله عليه وسلم : «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات: لا إله إلا الله...» الحديث. وأما الدعاء في الاصطلاح: فهو الرغبة إلى الله عز وجل بالسؤال والتضرع في تحقيق المطلوب.

     كما قال الطيبي: «هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له». وقال الخطابي: «حقيقة الدعاء استدعاء العبد من ربه العناية واستمداده إياه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إليه، والبراءة من الحول والقوة التي له، وهو سمة العبودية وإظهار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله، وإضافة الجود والكرم إليه».

     أنواع الدعاء: قال العلامة عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: «كل ماورد في القرآن من الأمر بالدعاء والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الداعين- يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة.

وهذه قاعدة نافعة، فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة: دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء.

     ويدل على عموم ذلك: قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60)، أي: أستجب طلبكم، وأتقبل عملكم ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر: 60)، فسمى ذلك عبادة، وذلك لأن الداعي دعاء المسألة يطلب مسؤوله بلسان المقال، والعابد يطلب من ربه القبول والثواب، ومغفرة ذنوبه بلسان الحال.

     فلو سألت أي عابد مؤمن: ما قصدك بصلاتك وصيامك وحجك وأدائك لحقوق الله وحق الخلق؟ لكان قلب المؤمن ناطقاً قبل أن يجيبك لسانه -: بأن قصدي من ذلك رضى ربي ونيل ثوابه والسلامة من عقابه، ولهذا كانت النية شرطاً لصحة الأعمال وقبولها، وإثمارها الثمرة الطيبة في الدنيا والآخرة».

فالدعاء نوعان: دعاء المسألة ودعاء العبادة:

     أما دعاء المسألة فهو: طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ودفعه، فإذا توجه العبد بسؤاله ودعائه إلى الله وحده: كمن يقول: اللهم ارحمني واغفرلي، فهذا من العبادة لله والتوحيد،
وأما إذا سأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يطلب من ميت أو غائب؛ أن يطعمه، أو ينصره، أو يغيثه، أو يشفي مرضه، فهذا شرك أكبر.

     وأما سؤال غير الله فيما يقدر عليه المسؤول: كأن يطلب من حي قادر حاضر أن يطعمه، أو يعينه فهذا جائز. قال ابن سعدي : ومن هذا قوله سبحانه في قصة موسى عليه السلام {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}(القصص: 15).

     وأما دعاء العبادة فهو: التقرب إلى الله بجميع أنواع العبادة، الظاهرة والباطنة، من الأقوال والأعمال، والنيات والتروك، التي تملأ القلوب بعظمة الله وجلاله؛ لأن المتعبد لله طالب بلسان مقاله ولسان حاله ربَّه قبول تلك العبادة، والإثابة عليها؛ فهي العبادة بمعناها الشامل،ومن أعظم ما يدخل فيها ذكر الله، وحمده، والثناء عليه-عز وجل- بما هو أهله.

فضل الدعاء: القيام بالدعاء أداء لعبادة عظيمة، وامتثال لأمر الله تعالى وطاعة لرسوله الكريم، ومع ذلك فله فضل عظيم من ذلك:

1- أن الدعاء أكرم شيء عند الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم : «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» أخرجه الترمذي، قال الشراح: «أي: ليس شيء أفضل عند الله،لأن فيه إظهارالفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته».

2- أن الدعاء يرد القدر بإذن الله، قال صلى الله عليه وسلم : «لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل يحرم الرزق بخطيئة يعملها» أخرجه ابن ماجه، وقال صلى الله عليه وسلم : «لن ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء عباد الله» أخرجه أحمد.

     قال ابن القيم: «والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء؛ يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وله مع البلاء ثلاثة مقامات:

     أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء؛ فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه، وإن كان ضعيفا.الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه. وقد روى الحاكم من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة».

     ويبين ابن القيم دلالة الحديث وعدم معارضته للقدر السابق فيقول: «إن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن سببه، ولكن قدر سببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال.

     وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء. كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب، ولما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم الأمة بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم  - وأفقههم في دينه؛ كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستنصر به - أي بالدعاء - على عدوه، وكان الدعاء أعظم جنديه، وكان يقول للصحابة: لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء. وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمتم الدعاء، فإن الإجابة معه».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك