رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 11 فبراير، 2014 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن { إنا كل شيء خلقناه بقـدر} (2-2)

والإيمان بالقدر يتحقق بالإيمان بأربعة أمور:

الأول: الإيمان بعلم الله الشامل:

يؤمن المسلم بأن الله تعالى يعلم كل شيء، يعلم ما كان وما يكون وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الموجودات والممكنات والمعدومات والمستحيلات، ويعلم كل شيء عن خلقه قبل أن يخلقهم، يعلم أعمالهم وأرزاقهم ومصيرهم في الجنة أم في النار، ومن الأدلة على ذلك:

     قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(الأنعام: 59). وآيات كثيرة تقرر أن الله تعالى عليم قد وسع كل شيء علما ولا يخرج عن علمه شيء مطلقا.

وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(الأنعام: 27 - 28) ولا أحد يعلم ذلك إلا الله وحده سبحانه.

الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى كتب كل شيء:

     يؤمن المسلم بأن الله تعالى قد كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء، قال تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍﮆ}(الأنعام: 38)، وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(يس: 12)، وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}(القمر: 52 - 53)، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا}(الحديد: 22).

وفي مسلم عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة». قال: «وكان عرشه على الماء».

وقال صلى الله عليه وسلم : «إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» أخرجه أبو داود.

تنبيه: الكتابة هنا لا تعني الإجبار على الأعمال، وإنما هي كتابة علم.

     بمعنى أن الله تعالى علم ما سيكون إلى يوم القيامة فكتب هذا العلم، وعلم الله تعالى صادق وشامل لا يخطئ ولا يغيب عنه شيء، كما أن علمه سبحانه منه ما هو إجباري على الإنسان كولادته وحياته وصفاته ومرضه ونحو ذلك مما لا دخل للإنسان به، ومنه ما يتعلق بالأمور الاختيارية التي يفعلها الإنسان بمحض إرادته كشربه وأكله وعبادته أو معصيته، فكل هذا مما كتبه الله تعالى ولا يفهم من ذلك الإجبار بل كتب الله تعالى كل ما سيجري على الإنسان من أمور إجبارية واختيارية.

الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة:

     دلت النصوص الكثيرة على أن كل شيء إنما يحدث بمشيئة الله تعالى، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}(القصص: 68)، وقال سبحانه: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(آل عمران: 40)، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ }(آل عمران: 6)، وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ}(النساء: 90)، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ  فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}(الأنعام: 112).

تنبيه: ضرورة التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية:

     يظن بعض الناس أن معنى لفظ الإرادة والمشيئة واحد في كل المواضع التي يردان فيها في النصوص الشرعية، وأن ذلك يتضمن رضا الله ومحبته، وهذا غير صحيح، بل دلت النصوص الشرعية على أن إرادة الله تعالى نوعان؛ إرادة كونية، وإرادة دينية، فعدم التمييز بينهما يوقع لبسا في الفهم وخطأ في الحكم؛ لذا لابد من التفريق بينهما كما سيأتي:

أولاً: الإرادة الكونية القدرية:

وهي فعله سبحانه، وهي إرادة شاملة لجميع المخلوقات، فلا يخرج شيء عنها، وهذه الإرادة لا تتخلف؛ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس: 82)، وقال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(الحج: 14).

     وهذه الإرادة لا علاقة لها بالمحبة، فقد يريد الله تعالى أشياء لا يحبها، لكنه أذن أن تقع في ملكه بمشيئته وإرادته مثل وجود إبليس والشياطين والكفر والكفار ونحوها من الشرور والأفات، قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(الزمر: 7) وقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}(البقرة: 205)، والكفر والفساد واقعان كما هو مشاهد، فقد أذن الله بوقوع ذلك وهو لا يحبه لحكمة يعلمها سبحانه.

ثانياً: الإرادة الشرعية الدينية:

وهي أمره ونهيه تعالى، وهذه الإرادة متعلقة بمحبته، فما أراده شرعا فهو يحبه، وما نهى عنه فهو يكرهه، قال تعالى: {يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة: 185)، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْﭤ}(النساء: 28).

     وهذه الإرادة قد تتخلف ولا تقع، فقد أمر الله تعالى الناس بالإسلام فمنهم من أسلم ومنهم من كفر، وهكذا الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي منهم من استجاب ومنهم من عصى، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(التغابن: 2).

تنبيه: تعرف إرادة الله تعالى بخبره أو بوقوعها، أما قبل ذلك فلا يمكن معرفة ذلك.

     يزعم بعض الناس أن هذه إرادة الله تعالى، والحق أن إرادة الله تعالى غيب اختص سبحانه بعلمه، وإنما تعلم إرادته بخبره في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتعلم كذلك إذا وقعت، فنعلم أن الله تعالى أراد كذا أو لم يرده، وليس قبل ذلك لأنه يكون من القول على الله بغير علم.

الرابع: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء:

يؤمن المسلم بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ولا خالق غيره، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}(الزمر: 62)، { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}(الفرقان: 2).

وكلمة الخلق تأتي مرة بمعنى الإيجاد كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر: 49)، وتأتي بمعنى التقدير كما قال تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}(العنكبوت: 17) أي تقدرونه وتهيئونه.

     والله خالق العباد وخالق أفعالهم، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(الصافات: 96)، ومع أن الله تعالى خالق كل شيء فإن للعبد إرادة ومشيئة وقدرة بها يفعل قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا}(النبأ: 39)، وقال تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}(البقرة: 223)، وأثبت للعبد قدرة كما قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}(التغابن: 16)، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﯤ}(البقرة: 286).

ومشيئة العبد وقدرته ليست مطلقة وإنما هي تابعة لمشيئة الله تعالى وقدرته، كما قال سبحانه: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}(التكوير: 28 - 29).

وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد، فالعبد هو الذي يوصف بفعله، فهو المؤمن والكافر، وهو البر والفاجر، وهو المصلي والصائم، والله خلقه وخلق فعله؛ لأنه هو الذي خلق فيه القدرة والإرادة اللتين بهما يفعل، وخالق السبب التام خالق للمسبب والنتيجة.

ومع ذلك فالله تعالى أمد المؤمنين بأسباب وألطاف وإعانات متنوعة، وصرف عنهم الموانع كما قال صلى الله عليه وسلم : «أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة»، وكذلك خذل الفاسقين ووكلهم إلى أنفسهم؛ لأنهم أعرضوا وتولوا فولاهم ما تولوا.

     والاحتجاج بالقدر على الشرك والمعاصي فعل الكفار والشيطان، كما قال تعالى عن إبليس أنه احتج بالقدر على معصيته: {قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}(الأعراف: 16). وقال تعالى عن حجة المشركين في عدم اتباع المرسلين: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴿148﴾}(الأنعام: 148).

وإنما يحتج بالقدر عند المصائب كما قال صلى الله عليه وسلم : «وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» أخرجه مسلم.

     والمطلوب من المسلم العمل الصالح والأخذ بأسباب النجاة، وعدم الاتكال على القدر أو الاحتجاج به؛ وذلك لعدم علمه به، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو الجنة» فقال رجل من القوم ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: «لا، اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ: { فأما من أعطى وأتقى}(الليل: 5) الآية وفى لفظ لمسلم «فكل ميسر لما خلق له». قال ابن القيم: «النبي صلى الله عليه وسلم  أرشد الأمة في القدر إلي أمرين هما سببا السعادة: الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر»، وقال: «والنبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة وقد تقدم قوله: “احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» وإن العاجز من لم يتسع للأمرين». ونختم هنا بسؤال وهو هل يجب أن يرضى العبد بالقدر؟ والجواب أنه لابد من التفصيل كما ذكره ابن القيم في كتابه النفيس شفاء العليل:

أولاً: القدر صفة الله تعالى، علمه وكتابته وإرادته وقدرته وخلقه فهذا من تمام الإيمان بالله ربا وإلها ومالكا ومدبرا، فيجب الرضا به.

ثانياً: القدر؛ حيث المقدر والمقضي فهو أنواع:

النوع الأول: المقدر الديني وهو شرع الله وأمره الذي قضى به وحكم به، فهذا يجب الرضا به؛ لأنه من لوازم الإسلام كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا}(الليل: 3). فإذا رضيه الله لنا فيجب علينا أن نرضى به، وقال صلى الله عليه وسلم : «من قال: رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم  نبياً؛ وجبت له الجنة».

النوع الثاني: المقدر الكوني وهو فعل الله تعالى وخلقه الذي قضى أن يقع في الكون، وهو قسمان:

- الأول: ما لا يجوز الرضا به: وهو المعايب والذنوب التي يكرهها الله، فالمسلم يكره الكفر والبدع والمعاصي والكفار والفساق والظلمة، وإن كانت بقدر الله وقضائه، ولهذا شرع الله تعالى إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتغيير هذه المنكرات والمفاسد.

- الثاني: ما يستحب الرضا به: وهو المصائب والأمور التي يكرهها الإنسان كالأمراض والموت ونحوها، فالواجب هو عدم التسخط وعدم الاعتراض على قدر الله، أما الرضا فهو مقام أعلى فيستحب ولا يجب.

ولو سأل سائل:كيف يرضى العبد بالمصائب مع كرهه لها؟

فالجواب أن الشيء قد يكون محبوبا من جهة ومكروها من جهة أخرى مثل: شرب الدواء المر فالمريض يكره الدواء لأنه مر، ويرضى به لأنه محتاج إليه، ومثله صوم اليوم الحارفالمسلم يكره الجوع والعطش والحر، ويرضى به لما فيه من الأجر.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك