رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 28 نوفمبر، 2011 0 تعليق

الحكمـة ضالـة المؤمن (41) كونـــوا ربانــيين

 

دعا النبي صلى الله عليه وسلم  بعض أهل الكتاب للإيمان به، ودعاهم إلى طاعته، فكان جوابهم : أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}، وفيها ذكر بعض مقاصد البعثة ووظائف الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم  يأمر أتباعه أن يكونوا ربانيين؛ ولهذا كان من الأهمية أن يتعرف محب الرسول صلى الله عليه وسلم ومتبعه على معنى الربانية وأبعادها حتى يتحقق بهذا الوصف.

فالرباني في لغة العرب منسوب إلى الرب ـ بزيادة ألف ونون للمبالغة ـ وقيل: هو من الرب بمعنى التربية، كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها.

       وقد اختلف المفسرون في المراد بالربانيين؛ فَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَاهُ : كُونُوا حُكَمَاء عُلَمَاء فقهاء وهو قول اِبْن عَبَّاس وأَبِي رَزِين ومُجَاهِد والسُّدِّيّ، وذهب سَعِيد بْن جُبَيْر إلى أنهم الْحُكَمَاء الأتْقِيَاء، وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ وُلاة النَّاس وَقَادَتهم ، كما قال اِبْن زَيْد: الرَّبَّانِيُّونَ : الَّذِينَ يَرُبُّونَ النَّاس وُلاة هَذَا الْأَمْر، يَرُبُّونَهُمْ: يَلُونَهُمْ، وَقَرَأَ: {لَوْلَا يَنْهَاهُم الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَار}  قَالَ: الرَّبَّانِيُّونَ : الْوُلاة, وَالْأَحْبَار : الْعُلَمَاء.

- وقال ابن سعدي: «أي: علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم، بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل»اهـ.

ويمكن هنا أن نلخص أهم سمات الربانيين:

أولاً : التوحيد والإخلاص

       توحيد الله تعالى أساس دعوة الرسل كما قال عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}، والإخلاص من أهم ما يأمر به الرسل الناس كما قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}، ولا يخفى أن الرباني منسوب إلى الرب وهو الله تعالى، قال الطاهر ابن عاشور: «لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه.  ومعنى ذلك أن يكونوا مخلصين لله دون غيره» ولهذا قال في الآية التي تليها تأكيدا لهذا المعنى : {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }.

ثانياً: التعلم والتعليم

       من أهم سمات الرباني الاشتغال بالعلم؛ دراسة عميقة وتدريسا رفيقا، وهذا ما تدل عليه نصوص العلماء؛ قال ابن الأعرابي: «الرباني: العالم المعلم، الذي يغذو الناس بصغار العلم قبل كبارها»، وقال محمد بن علي ابن الحنفية لما مات عبد الله بن عباس ]: «اليوم مات رباني هذه الأمة»، وروي عن علي ] أنه قال: «الناس ثلاثة؛ عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق».

        وقال ابن سعدي : «والباء في قوله (بما كنتم تعلمون)  باء السببية، أي: بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين.»

        وقال الطاهر: «وقوله {بما كنتم تعلمون الكتاب}  أي لأن علمكم الكتاب من شأنه أن يصدكم عن إشراك العبادة، فإن فائدة العلم (العمل)، و(تدرسون)  معناه: تقرؤون، أي قراءة بإعادة وتكرير: لأن مادة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرر عمل يعمل في أمثاله، وقالوا: درس الكتاب إذا قرأه بتمهل لحفظه، أو للتدبر، وفي الحديث: « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة» رواه الترمذي، فعطف التدارس على القراءة، فعلم أن الدراسة أخص من القراءة، ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول؛ فلذلك صار درس الكتاب مجازا في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية {وبما كنتم تدرسون} على {بما كنتم تعلمون الكتاب}» اهـ.

ثالثاً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

       الرباني يقوم بوظيفة الرسل والنبيين، ومنها إرشاد الناس إلى مصالحهم، ودعوتهم إلى خيري الدنيا والآخرة، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} قال ابن سعدي: «هلّا ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس، الذين منّ الله عليهم بالعلم والحكمة عن المعاصي التي تصدر منهم، ليزول ما عندهم من الجهل، وتقوم حجة الله عليهم، فإن العلماء عليهم أمر الناس ونهيهم، وأن يبينوا لهم الطريق الشرعي، ويرغبوهم في الخير ويرهبوهم من الشر»اهـ.

        ولهذا ذهب الطبري إلى أن الرَّبَّانِيّ ْمَنْسُوب إِلَى الرَّبَّان وهو الَّذِي يَرُبّ النَّاس, وَهُوَ الَّذِي يُصْلِح أُمُورهمْ وَيَرُبّهَا, وَيَقُوم بِهَا، قال: «وَكَانَ الْعَالِم بِالْفِقْهِ وَالْحِكْمَة مِنْ الْمُصْلِحِينَ , يَرُبّ أُمُور النَّاس بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ الْخَيْر , وَدُعَائِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَتهمْ , وَكَانَ كَذَلِكَ الْحَكِيم التَّقِيّ لِلَّهِ, وَالْوَلِيّ الَّذِي يَلِي أُمُور النَّاس عَلَى الْمِنْهَاج الَّذِي وَلِيَهُ الْمُقْسِطُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ أُمُور الْخَلْق بِالْقِيَامِ فِيهِمْ, بِمَا فِيهِ صلاح عَاجِلهم وَآجِلهم, وَعَائِدَة النَّفْع عَلَيْهِمْ فِي دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ; كَانُوا جَمِيعًا مُسْتَحِقِّينَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، فَالرَّبَّانِيُّونَ إِذًا, هُمْ عِمَاد النَّاس فِي الْفِقْه وَالْعِلْم وَأُمُور الدِّين وَالدُّنْيَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد: « وَهُمْ فَوْق الْأَحْبَار «, لِأَنَّ الْأَحْبَار هُمْ الْعُلَمَاء؛ وَالرَّبَّانِيّ: الْجَامِع إِلَى الْعِلْم وَالْفِقْه, الْبَصَر بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِير, وَالْقِيَام بِأُمُورِ الرَّعِيَّة, وَمَا يُصْلِحهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينهمْ .»اهـ.

ولا شك أن هناك صفات أخرى للربانيين، يجمعها الالتزام بكل ما شرعه الله تعالى من العقائد والأخلاق والأعمال، ظاهرا وباطنا ، فعلا وتركا ، مع الإخلاص لله تعالى والاتباع لرسول الله [ والنصح للخلق ورحمتهم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وبالله التوفيق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك