الحكمـة ضالـة المؤمن (40) ثرثرة الإنسان مرآة أفكاره
لا شك أن من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان أن جعل له عقلا مفكرا، وقلبا واعيا، ولسانا معبرا، كما قال الله تعالى:{الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان}.
وقد ذكر ابن كثير اختلاف المفسرين في معنى قوله تَعَالَى: {عَلَّمَهُ الْبَيَان}، فنقل عن الْحَسَن أنه قال:«يَعْنِي النُّطْق»، في حين اختار الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا أن المراد:»الْخَيْر وَالشَّرّ»، وَرجح ابن كثير قَوْل الْحَسَن؛ لأَنَّ السِّيَاق فِي تَعْلِيمه تَعَالَى الْقُرْآن وَهُوَ أَدَاء تِلَاوَته، وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ النُّطْق عَلَى الْخَلْق وَتَسْهِيل خُرُوج الْحُرُوف مِنْ مَوَاضِعهَا مِنْ الْحَلْق وَاللِّسَان وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى اِخْتِلَاف مَخَارِجهَا وَأَنْوَاعهَا.» وقال الشيخ ابن سعدي:«{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجلّ نعمه، وأكبرها عليه.»
فاللسان معرب عما في الجنان من خير أو شر؛ ولهذا يمكن معرفة دخيلة الإنسان من فلتات لسانه كما قال تعالى عن المنافقين: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أن لن يخرج الله أضغانهم وَلَوْ نَشَاءُ لأرَينَاكهُم فَلَعَرَفَتهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.
قال ابن سعدي: «يقول تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} من شبهة أو شهوة، بحيث تخرج القلب عن حال صحته واعتداله، أن الله لا يخرج ما في قلوبهم من الأضغان والعداوة للإسلام وأهله؟؛ هذا ظن لا يليق بحكمة الله؛ فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب، وذلك بالابتلاء بالمحن، التي من ثبت عليها، ودام إيمانه فيها، فهو المؤمن حقيقة، ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها، وحين أتاه الامتحان، جزع وضعف إيمانه، وخرج ما في قلبه من الضغن، وتبين نفاقه، هذا مقتضى الحكمة الإلهية، مع أنه تعالى قال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي: بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم؛ فإن الألسن مغارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} فيجازيكم عليها».
وقال ابن كثير: «يَقُول عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْ نَشَاء يَا مُحَمَّد لَأَرَيْنَاك أَشْخَاصهمْ فَعَرَفْتهمْ عِيَانًا وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَل الله تَعَالَى ذَلِكَ فِي جَمِيع الْمُنَافِقِينَ سَترًا مِنْهُ عَلَى خَلْقه وَحَمْلا لِلأمُورِ عَلَى ظَاهِر السَّلَامَة وَرَدًّا لِلسَّرَائِرِ إِلَى عَالِمهَا ،{وَلَتَعْرِفَنَّهُم فِي لَحْن الْقَوْل} أَيْ فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامهمْ الدَّالّ عَلَى مَقَاصِدهمْ يُفْهَم الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَيّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ بِمَعَانِي كَلَامه وَفَحْوَاهُ، وَهُوَ الْمُرَاد مِنْ لَحْن الْقَوْل كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بْن عَفَّان ]:» مَا أَسَرَّ أَحَد سَرِيرَة إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّه عَلَى صَفَحَات وَجْهه وَفَلَتَات لِسَانه» وَفِي الْحَدِيث: «مَا أَسَرَّ أَحَد سَرِيرَة إِلَّا كَسَاهُ اللَّه تَعَالَى جِلْبَابهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْر وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ».
فحري بالمسلم أن يكون نقي السريرة، سليم الباطن؛ ولهذا ذكر الله تعالى تعليما لنا وإرشادا، دعاء المؤمنين أنهم يقولون: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} مما يدل على أن طهارة الباطن وسلامة الصدر من الأمور المطلوبة، كما أن خبث الباطن وسوء الدخيلة والغل من الأمور المحظورة التي على المسلم أن يتجنبها ويسأل الله تعالى السلامة منها.
قال ابن سعدي: «ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.»
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله [: « أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب ، صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال « هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد «أخرجه ابن ماجه.
فعلى المسلم أن يحذر من فلتات لسانه، وسقطات كلامه؛ فلا يكون مهذارا، ثرثارا، يتكلم بكل ما خطر بباله، ويتلفظ بما جرى على قلبه، بل يتخير ألفاظه ومعانيه، وينتقي مجالسيه ومستمعيه، ويعطي كل مجلس حقه من الحديث المناسب، ويحرص من آثار كلامه لئلا ترتد في نحره.
كما أن الكلام معيار العقل ، ومقياس الثقافة، وقد قيل :«كلام الرجل بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل واقتصر منه على القليل».
وكانت العرب قديما تقول: «كل إناء بما فيه ينضح»، فقلب المرء إذا امتلأ خيرا وطهارة ظهر على لسانه، وكذلك إذا ملئ خبثا وشرا برز في لفظه ومنطقه ، قال في «صبح الأعشى» : «كل ما يكون في خاطر الإنسان يظهر من الكلام الذي يخرج من فيه، وكل وعاء ما ينضح إلا بما فيه».
وقال الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
أي: مهما حاول الإنسان أن يتصنع الخير وهو يضمر الشر فإن الله سوف يظهر ما بباطنه ويكشف عن سريرته يوما ما، فمهما كان للمرء من صفات أو عيوب خفية، أو حاول إخفاءها فسوف تنكشف للناس.
ومن الشعر الحكيم قول نصر بن أحمد:
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل
وكلّ امرئ ما بين فكَّيه مقتل
وكم فاتحٍ أبواب شرٍّ لنفسه
إذا لم يكن قفلٌ على فيه مقفل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره
فذاك لسـانٌ بالبـلاء موكّـل
إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلَّماً
فدبّر وميّز ما تقـول وتفعل
وقال صالح بن جناح:
أقلل كلامك واستعذ من شرّه
إنّ البلاء ببعضه مقرون
واحفظ لسانك واحتفظ من غيّه
حتّى يكون كأنَّه مسجون
وكِّل فؤادك باللِّسان وقل له
إنّ الكلام عليكما موزون
فزناه وليكُ محكماً في قلّةٍ
إنّ البلاغة في القليل تكون
- وخلاصة القول: إن ثرثرة المرء مرآة أفكاره، مثل صيني يدل على أن أفكار الإنسان تنعكس في كلامه، فليحذر من لسانه، وليطهر سريرته، وليعمر قلبه ولسانه بذكر الله والعلم النافع والعمل الصالح والذكر الدائم لينال خيري الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.
لاتوجد تعليقات