الحكمـة ضالـة المؤمن- للباطل جولة ثم يزول
للباطل صورعديدة، ومظاهر كثيرة، إلا أن حقيقته واحدة، ومآله إلى زوال، فالباطل زيف وسراب وإن انتفش وانتفخ وعلا في السماء، فمصيره إلى سقوط واضمحلال مهما طال الزمان.
فالباطل: نقيض الحق، وهو ما لا ثبات له عند الفحص والتمييز، يقال بطل الشيء: فسد وسقط حكمه، وأبطل الشئ: جعله باطلا كما قال تعالى: {ليحق الحق ويبطل الباطل}.
قال ابن الجوزي: «الباطل ما لا صحة له، وضده الحق، ويقال: بطل الشيء: إذا تلف، وبطل البناء: انتقض، وقد فرق بعض العلماء بين الباطل والفاسد فقال: الباطل هو الذي لا وجود له، والفاسد: موجود إلا أنه قد اختل بعض شروطه، وذكر أهل التفسير أن الباطل في القرآن على أربعة أوجه:
- أحدها: الكذب، ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت: {إذا لارتاب المبطلون}، وفي حم السجدة: {لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه}.
- والثاني: الإحباط، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: { لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى}، وفي سورة محمد: {لا تبطلوا أعمالكم}.
- والثالث: الظلم، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام}، وفي سورة النساء: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
- والرابع: الشرك، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تلبسوا الحق بالباطل}، وفي سورة النحل: {أفبالباطل يؤمنون}، وفي سورة العنكبوت: {والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون}، وقال بعض المفسرين: إن الباطل في هذه الآية الشيطان، فيكون ذلك وجها خامسا».
وللباطل على مر التاريخ صولات وجولات، وأيام ظهر فيها وارتفع، إلا أن سنة الله تعالى ثابتة في نصرة الحق دائما، وإبطال الباطل وإزالته وفضحه، فقد بشرنا الله تعالى بأنه ينصر الحق وأهله فقال سبحانه: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}، وقال تعالى: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون}.
فالباطل لا بقاء وإن جال جولة ردهة من الزمن، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْربُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأمَّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ}، قال ابن كثير: «اِشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة عَلَى مَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ لِلْحَقِّ فِي ثَبَاته وَبَقَائِهِ، وَالْبَاطِل فِي اِضْمِحْلَاله وَفَنَائِهِ».
وقال تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}، قال ابن سعدي: «هذا وصف للباطل، ولكنه قد يكون له صولة ورواج إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك، ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته».
قال ابن كثير عن الآية الكريمة أن فيها تَهْدِيدا وَوَعِيدا لِكُفَّارِ قُرَيْش، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْ اللَّه الْحَقّ الَّذِي لَا مِرْيَة فِيهِ، وَلَا قِبَل لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ مَا بَعَثَهُ اللَّه بِهِ مِنْ الْقُرْآن وَالْإِيمَان وَالْعِلْم النَّافِع، وَزَهَقَ بَاطِلهمْ أَيْ اِضْمَحَلَّ وَهَلَكَ، فَإِنَّ الْبَاطِل لَا ثَبَات لَهُ مَعَ الْحَقّ، وَلَا بَقَاء، ونقل عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ: دَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة وَحَوْل الْبَيْت سِتُّونَ وَثَلَثمِائَةِ صَنَمًا فَجَعَلَ يَطْعَنهَا بِعُودٍ فِي يَده وَيَقُول {جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِل إِنَّ الْبَاطِل كَانَ زَهُوقًا}. أخرجه البخاري.
ومن الآيات الدالة على زوال الباطل قوله تعالى: {جَاءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِئ الْبَاطِل وَمَا يُعِيد}، قال ابن سعدي: «أي: ظهر وبان، وصار بمنزلة الشمس، وظهر سلطانه، {وما يبدئ الباطل وما يعيد}أي: اضمحل وبطل أمره، وذهب سلطانه، فلا يبدئ ولا يعيد».
وَقَال تعالى مبينا ظهور الحق على الباطل بقوة ووضوح: {بَلْ نَقْذِف بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِل}، قال ابن سعدي: «يخبر تعالى أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإن كان باطل قيل وجودل به، فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان ما يدمغه فيضمحل، ويتبين لكل أحد بطلانه، وهذا عام في جميع المسائل الدينية، لا يورد مبطل شبهة عقلية ولا نقلية في إحقاق باطل أو رد حق إلا وفي أدلة الله من القواطع العقلية والنقلية ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد».
فواجب المسلم إخلاص الدين لله تعالى، وحسن الإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يستنير بالعلم الشرعي، ويسترشد بتوجيهات العلماء المعتبرين حتى يسلم من اتباع الباطل والركون إليه، لأن الجهل وإتباع الهوى والتقليد الأعمى من مزالق الباطل ومدارج الشيطان لإغواء بني آدم للوقوع في حضيض الضلال والانغماس في الباطل، والله سبحانه يتولى المخلصين الصالحين، ويوفق الساعين للخير والمجتهدين، ولا يحب الفساد ولا المفسدين، وقد توعد الضالين المضلين، فليختر المسلم ما يحب أن يعرف به وينسب إليه، وما يريد أن يختم له به، فقد أخرج مسلم عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُبعث كل عبد على ما مات عليه»، قال المُناوي: «أي يموت على ما عاش عليه ويبعث على ذلك»، وقد أشار القرآن الكريم لهذه القاعدة الكريمة بقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }، فشتان بين أصحاب الحق علما وعملا، وأهل الباطل دعوة وانحرافا وإفسادا، نسأل الله تعالى السلامة والاستقامة، وبالله التوفيق.
لاتوجد تعليقات