الحكمـة ضالـة المؤمن- قل كل يعمل على شاكلته
النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار
جبل الإنسان على السعي في جلب مصالحه، والبعد عما يضره ويؤذيه، وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء، إلا أن الاختلاف وقع في تحديد المصلحة التي يسعى الإنسان لتحصيلها، والمضرة التي يحرص على البعد عنها.
وللناس معايير مختلفة في تحديد المصالح والمفاسد، بحسب عقولهم المتفاوتة، وثقافاتهم المتنوعة، وأهوائهم المتضاربة، وبيئاتهم المتعددة.
والقرآن الكريم قرر هذا التعدد في السعي مشيرا إلى أسبابه وبواعثه؛ فقال تعالى: {قُلْ كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته فَرَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} قال الإمام الطبري: «يَقُول عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّد لِلنَّاسِ: كُلّكُمْ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته: عَلَى نَاحِيَته وَطَرِيقَته {فَرَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ} هُوَ مِنْكُمْ {أَهْدَى سَبِيلًا} يَقُول: رَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ هُوَ مِنْكُمْ أَهْدَى طَرِيقًا إِلَى الْحَقّ مِنْ غَيْره.
ثم ذكر بإسناده عَنْ السلف تفسيرهم لقوله تعالى{كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته} فعن ابن عباس قال: عَلَى نَاحِيَته. وعَنْ مُجَاهِد قَالَ: عَلَى طَبِيعَته عَلَى حِدَته. وعَنْ قَتَادَة قال: عَلَى نَاحِيَته وَعَلَى مَا يَنْوِي. وقَالَ اِبْن زَيْد: عَلَى دِينه، الشَّاكِلَة: الدِّين».
وذكر القرطبي هذه الأقوال ثم قال: «وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن».
ويبين الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن الشاكلة في اللغة هي: الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها، ونشأ عليها، وأصلها شاكلة الطريق، وهي الشعبة التي تتشعب منه، وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا، وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل.
ثم بين مناسبة ختام الآية لأولها في قوله {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}، فقال: «وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله، والترغيب للمؤمنين، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون، كقوله {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}».
ويوضح الشيخ السعدي؛ أن السعيد من عمل بالتوحيد، والمخذول من عمل للعبيد، فقال: «كل من الناس يعمل على شاكلته أي: ما يليق به من الأحوال؛ إن كانوا من الصفوة الأبرار لم يشاكلهم إلا عملهم لرب العالمين، أو من كانوا من غيرهم من المخذولين لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين، ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم».
ويؤكد ابن القيم هذا المعنى ويزيد عليه فيقول: «معنى الآية: كل يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، فالفاجر يعمل على ما يليق به، وكذلك الكافر والمنافق ومريد الدنيا وجيفتها: عامل على ما يناسبه ولا يليق به سواه، ومحب الصور: عامل على ما يناسبه ويليق به. فكل امريء يهفو إلى ما يحبه، وكل امريء يصبو إلى ما يناسبه، فالمريد الصادق المحب لله: يعمل ما هو اللائق به والمناسب له، فهو يعمل على شاكلة إرادته وما هو الأليق به، والمناسب لها.
والنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها.
وهذا معنى قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه}، أي على ما يشاكله ويناسبه، فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته، وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعاداته التي ألفها وجبل عليها. فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن المنعم، والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكرالمنعم ومحبته والثناء عليه، والتودد إليه والحياء منه، والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله».
وقد جاء في السنة المطهرة إشارة إلى تنوع أعمال الناس وتفاوت سعيهم، وما ينتج عن ذلك من آثار في الدنيا والآخرة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» أخرجه مسلم.
قال النووي: «معناه كل إنسان يسعى بنفسه؛ فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما فيوبقها أي يهلكها».
قال الشيخ ابن عثيمين: «قوله: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو» أي كل الناس يخرج مبكراً في الغدوة في الصباح وهذا من باب ضرب المثل. «فَبَائِعٌ نَفْسَهُ» أي الغادي يبيع نفسه، ومعنى يبيع نفسه أنه يكلفها بالعمل، لأنه إذا كلفها بالعمل أتعب النفس فباعها.
ينقسم هؤلاء الباعة إلى قسمين: معتق و موبق، ولهذا قال: «فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا» فيكون بيعه لنفسه إعتاقاً إذا قام بطاعة الله كما قال الله عزّ وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} يشتري نفسه أي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عزّ وجل، فهذا الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله وقام بطاعته قد أعتقها من العذاب والنار.
والذي أوبقها هو الذي لم يقم بطاعة لله عزّ وجل حيث أمضى عمره خُسراناً، فهذا موبق لها أي مهلك لها.
لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة للقرآن إلى من يكون القرآن حجة له، ومن يكون حجة عليه، ذكر أن العمل أيضاً قد يكون على الإنسان وقد يكون للإنسان، فيكون للإنسان إذا كان عملاً صالحاً، ويكون عليه إذا كان عملاً سيئاً.
وانظر إلى هذا الحديث: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ» يتبين لك أن الإنسان لابد أن يعمل إما خيراً وإما شراً».
والذي يتأمل الشريعة الإسلامية يجد أن الله تعالى قد أكرم المسلمين بالهداية للدين، ففي الوقت الذي يحار الناس في معرفة سبيلهم وغايتهم، فيهلكون أنفسهم في أودية الدنيا المتشعبة، وتختلف أعمالهم ومقاصدهم، نجد النصوص الشرعية قد بينت أعلى المقاصد، وأسمى الغايات، وأوضحت السبل الموصلة إليها، والأمور المعينة عليها، كما حذرت من آفات الطريق وعقبات السبيل التي تصد الإنسان عن غايته، أو تحرفه عنها وتؤخره عن بلوغها، كما أن المآل والمصير بالنسبة للمسلم معلوم وواضح؛ إما جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وإما جهنم وبئس المصير، فالحمد لله على إحسانه وإنعامه إذ اختار لنا الإسلام دينا، ووفقنا إليه، وهو المسؤول أن يثبتنا عليه، وأن يرزقنا حسن القصد وحسن العمل، مع حسن الخاتمة وحسن العاقبة، وبالله التوفيق.
لاتوجد تعليقات