رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 23 أكتوبر، 2012 0 تعليق

الحكمـة ضالـة المؤمن-احذروا نفار النعم.. فما كل شارد بمردود

كلمة حق قالها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما نقلها عنه الثعالبي في كتابه «الإعجاز والإيجاز»؛ حيث شبه رضي الله عنه النعم بالإبل المقيدة، وحذر من فرارها من قيدها ونفرتها من صاحبها؛ لأنه ليس كل ما شرد يمكن رده إلى حاله الأولى.

     وهي كلمة حكيمة تدل على إدراك عميق، ونظر دقيق في النصوص الشرعية والسنن الكونية، التي تشهد بأن النعم كلها من الله تعالى وحده كما قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله}، وأن سبب دوامها هو الشكر والاستقامة كما قال تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم}، ومن أكبر أسباب زوالها الكفر والبطر وسوء استعمالها وصرفها عما يقتضيه الشرع والعقل.

     ولو نظرنا في معنى النعمة في اللغة لوجدنا أنها على كثرة اشتقاقاتها تدور حول الترفه وطيب العيش والصلاح، فالنعمة: ما ينعم الله به على عبده من مال وعيش.

     وأما النعمة في القرآن فهي كما قال الأصفهاني في «المفردات»: «النعمة: الحالة الحسنة»، قال: «والنعمة للجنس تقال للقليل الكثير، قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وقال: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}، وقال: {وأتممت عليكم نعمتي}.

     وذكر ابن الجوزي في «نزهة الأعين النواظر» أن النعمة ما يحصل للإنسان به التنعم في العيش، وقرر أن النعمة في القرآن على عشرة أوجه:

- أحدها: المنة، ومنه قوله تعالى في المائدة: {يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم}.

- والثاني: الدين والكتاب، ومنه قوله تعالى في البقرة: {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته}.

- والثالث: محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه قوله تعالى في النحل: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها}.

- والرابع: الثواب، ومنه قوله تعالى في آل عمران: {يستبشرون بنعمة من الله وفضل}.

- والخامس: النبوة، ومنه قوله تعالى في الضحى: {وأما بنعمة ربك فحدث}.

- والسادس: الرحمة، ومنه قوله تعالى في الحجرات: {فضلا من الله ونعمة}.

- والسابع: الإحسان، ومنه قوله تعالى في الليل: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى}.

- والثامن: سعة المعيشة، ومنه قوله تعالى في لقمان: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}.

- والتاسع: الإسلام، ومنه قوله تعالى في الأحزاب: {إذ تقول للذي أنعم الله عليه}.

- والعاشر: العتق، ومنه قوله تعالى في الأحزاب: {وأنعمت عليه}؛ لأن إنعام الله تعالى عليه بالإسلام، وإنعام النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق وهو زيد بن حارثة.

     والقرآن الكريم يرشدنا إلى واجب المسلم تجاه النعم، وأول ذلك التذكر وعدم نسيان النعم أو التغافل عنها، قال تعالى: {يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم}، وقال سبحانه: {واذكروا نعمة الله عليكم}، قال الشيخ ابن سعدي موضحًا كيفية التذكر: «باللسان حمدًا وثناء، وبالقلب اعترافًا وإقرار»، وبالأركان بصرفها في طاعة الله».

     وبين رحمه الله ثمرة كثرة ذكر النعم فقال: «فإن في استدامة ذكرها داعيا لشكر الله تعالى ومحبته وامتلاء القلب من إحسانه».

     ومن واجب المسلم تجاه النعم الشكر كما قال تعالى: {واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: إن كنتم مخلصين له العبادة فلا تشكروا إلا إياه، ولا تنسوا المنعم».

     والشكر هو حال المرسلين والمؤمنين كما ذكر سبحانه عن سليمان عليه السلام أنه قال: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي}، وقال سبحانه عن المؤمن الصالح أنه يقول: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي}، قال الشيخ ابن سعدي: «فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه».

     وقد وضح لنا القرآن الكريم أسباب زوال النعم ومنها الكفر فقال تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار}، فنعمة الله تعالى عليهم هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، فقاموا بالكفر به والصد عن سبيل الله بدلا من الشكر لله بالإيمان برسوله واتباع دينه، فكان عاقبتهم النار وبئس القرار.

     وضرب الله تعالى في القرآن الأمثلة للقرى الكافرة بنعم الله وما حل بها نتيجة ذلك، فقال تعالى: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}، قال الشيخ ابن سعدي: «فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد، والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم».

     وضرب لنا مثلا بأهل سبأ فقال: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال...} إلى أن قال تعالى{ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور}، قال الشيخ ابن سعدي: «فكما بدلوا الشكر الحسن بالكفر القبيح، بدلوا تلك النعمة بما ذكر» ثم قال: «وهل نجازي جزاء العقوبة إلا من كفر بالله وبطر النعمة؟!».

     وضرب لنا مثلا في سورة القلم بأصحاب الجنة الذين اغتروا بما عندهم من النعمة وجزموا بثباتها في أيديهم، وعزموا على منع حق الله تعالى فيها، فكانت النتيجة أن نزعت منهم ونزل بها عذاب أبادها وأتلفها، ثم قال تعالى: {كذلك العذاب} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلبه الله الشيء الذي طغى به وبغى، وآثر الحياة الدنيا، وأن يزيله عنه أحوج ما يكون إليه».

     فما أحوجنا في بلدنا الآمن الذي نتقلب فيه بنعم الله الوفيرة وآلائه الغزيرة أن ندرك قيمة ما لدينا فنذكر نعمة الله، ونشكر فضله، ونحفظ حدوده، وننأى عن سبيل الجاهلين وسلوك الجاحدين، ونعلم أن النعم سريعة الزوال، وأن العصيان سبب الحرمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه» رواه أحمد.

     وقد أخرج الإمام أحمد عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب» وحسنه الشيخ الألباني، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم». متفق عليه.

     قال الشيخ ابن سعدي: «هذا يدل على شكر الله بالاعتراف بنعمه، والتحدث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعم، وفعل جميع الأسباب المعينة على الشكر؛ فإن الشكر لله هو رأس العبادة، وأصل الخير، وأوجبه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصة أو عامة إلا من الله، وهو الذي يأتي بالخير والحسنات، ويدفع السوء والسيئات، فيستحق أن يبذل له العباد من الشكر ما تصل إليه قواهم، وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر.

     وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القوي لشكر نعم الله، وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم، فمن استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه؛ فإنه لا يزال يرى خلقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق، وخلق وخلق، فيحمد الله على ذلك حمدًا كثير».

     فيا ليت المغرورين ينظرون إلى ما هم فيه، ويقارنونه مع حال كثير من شعوب الأرض التي فقدت النعم الحسية والمعنوية، فيشكروا الله تعالى على الأمن والإيمان، والخير والإحسان، ويدركوا أن النعم إذا فرت يعسر ردها إلا أن يشاء الله كما قال علي رضي الله عنه: «احذروا نفار النعم؛ فما كل شارد بمردود».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك