رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 5 نوفمبر، 2012 0 تعليق

الحكمـة ضالـة المؤمن{واتبع سبيل من أناب إلي}

 

هذه الوصية الربانية على وجازتها اشتملت على فوائد عديدة، وتوجيهات مفيدة، تضمن النجاة لمن اتبعها، والسلامة لمن عمل بها.

فقد دلت بمنطوقها على لزوم اتباع سبيل من أناب إلى الله تعالى، وأشارت بدلالتها على وجود سبل أخرى غير هذا السبيل، على المسلم أن يعرفها أولاً ليحذر منها ويجتنبها.

والسبيل في اللغة هو الطريق الواضح، وقال الأصفهاني: «الطريق الذي فيه سهولة».

- والإنابة: في اللغة تعني الرجوع، مأخوذة من الفعل ناب نوبا ونوبة: إذا رجع مرة بعد مرة، والإنابة إلى الله تعالى تكون بالرجوع إليه بالتوبة والإخلاص، وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع، والمنيب إلى الله: المسرع إلى مرضاته، الراجع إليه كل وقت.

     وقد أمر الله تعالى بالإنابة فقال:{وأنيبوا إلى ربكم}، وأثنى على خليله بها فقال تعالى: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب}، وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة فقال:{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها}إلى أن قال: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}، وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الإنابة فقال:{وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام}.

     قال ابن القيم: «والإنابة إنابتان: إنابة لربوبيته، وهي إنابة المخلوقات كلها، يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر قال الله تعالى: {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه}، فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر، كما هو الواقع، وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام، بل تجامع الشرك والكفر، كما قال تعالى في حق هؤلاء:{ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم} فهذا حالهم بعد إنابتهم.

     والإنابة الثانية:إنابة أوليائه، وهي إنابة لإلهيته، إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع، وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك».

     وقد تعددت عبارات العلماء في تحديد المقصود بهذه الآية؛ فقال ابن كثير: «يعني: المؤمنين»، وقال الشيخ ابن سعدي: «وهم المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، المستسلمون لربهم، المنيبون إليه، واتباع سبيلهم: أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله، التي هي انجذاب دواعي القلب وإراداته إلى الله، ثم يتبعها سعي البدن فيما يرضي الله، ويقرب إليه».

     وقال البغوي: «أي: دين من أقبل إلى طاعتي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه»، وقال الطبري: «يقول: واسلك طريق من تاب من شركه، ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم».

     وقد جاء في كتاب الله تعالى آيات كثيرة تضمنت ذكر سبيل الله كقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله}، وقوله: {وأنفقوا في سبيل الله}، وقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك} وسبيل الله تعالى: كل ما شرعه من الحق والهدى، وتارة يصفه بأنه سبيل الرشد كما قال تعالى: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا}، وتارة يصفه بأنه سبيل المؤمنين كما قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جنهم وساءت مصيرا} قال الشيخ ابن سعدي: «وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم».

     ويحذرنا سبحانه من سبيل المجرمين كما قال تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}، قال الشيخ ابن سعدي: «نوضحها ونبينها ونميز طريق الهدى من الضلال، والغي من الرشاد، ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه، ولتستبين سبيل المجرمين الموصلة إلى سخط الله وعذابه؛ فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت أمكن اجتنابها والبعد عنها، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل».

     ونهانا سبحانه عن اتباع سبيل المفسدين كما جاء في وصية موسى لأخيه هارون عليهما السلام في قوله تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: اتبع طريق الصلاح ولا تتبع سبيل المفسدين وهم الذين يعملون بالمعاصي».

     ونهى تعالى عن اتباع سبيل الذين لا يعلمون، فقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {فاستقيما ولا تتبعانِّ سبيل الذين لا يعلمون} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: لا تتبعانِّ سبيل الجهال الضلال المنحرفين عن الصراط المستقيم، المتبعين لطرق الجحيم».

     وقد وصانا الله تعالى وصية جامعة عظيمة فقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

     قال الشيخ ابن سعدي: «ولما بيّن كثيرا من الأوامر الكبار والشرائع المهمة أشار إليها وإلى ما هو أعم منها فقال: {وأن هذا صراطي مستقيما} أي: هذه الأحكام وما أشبهها مما بينه الله في كتابه، ووضحه لعباده صراط الله الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المعتدل السهل المختصر، {فاتبعوه} لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح، {ولا تتبعوا السبل} أي: الطرق المخالفة لهذا الطريق {فتفرق بكم عن سبيله}أي: تضلكم عنه وتفرقكم يمينا وشمالا، فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم، فقال:{ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم علما وعملا، صرتم من المتقين، وعباد الله المفلحين، ووحد الصراط وأضافه إليه؛ لأنه سبيل واحد موصل إليه، والله هو المعين للسالكين على سلوكه».

     وعن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا , ثم قال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها» ثم قرأ هذه الآية.

     فالمسلم أمام تقاطع السبل ومفترق الطرق عليه أن يبحث عن سبيل الله الذي قامت عليه الأدلة والبراهين، ويسأل الله الهداية إليه ويستعين بالمجاهدة للوصول إليه فقد وعد الله تعالى أهل المجاهدة بالهداية والإعانة فقال عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} قال الشيخ ابن سعدي: «دل هذا على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه الله ويسر له أسباب الهداية».

     وليحذر من مخالفة سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع سبيل الغاوين؛ حتى لا يبوء بالحسرة والندامة يوم القيامة كما قال تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتَى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا}.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك