رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 1 يوليو، 2012 0 تعليق

الحكمة ضالة المؤمن (55) إذا نزل بك الشر فاقعد به

 

من الأمثال العربية الحكيمة التي تدل على عقل واع، وأدب راق، ونظر ثاقب، وفكر صائب، قولهم: «إذا نزل بك الشر فاقعد به»، ومعناه - كما يقول ابن منظور - يدور حول معنيين: «أحدهما: أن الشر إذا غلبك فذل له ولا تضطرب فيه، والثاني: إذا انتصب لك الشر ولم تجد منه بدا فانتصب له وجاهده. وقولهم: فاقعد به أي: احلم».

والإنسان في هذه الدنيا لا يخلو من التعرض للفتن والمحن والشرور التي تعترض طريقه، والناس تختلف مواقفها من الشرور والفتن بحسب طبيعة كل منهم، وما يمليه عليه دينه وخلقه وما نشأ عليه من التأني والرفق والحلم، أو الطيش والعجلة والسفه.

       فهذا المثل العربي القديم يضرب لمن يؤمر بالحلم وترك التسرع إلى الشر، ومعناه: إذا رأيت شراً مقبلاً، وفتنة ثائرة، فتأن، واحلم، ولا تسارع في الشر، ولا تستشرف له.

        والسنة المطهرة تقرر مثل هذا المعنى وتؤكده، قال البخاري في أول كتاب الفتن من صحيحه: «باب قول الله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من الفتن»، يشير رحمه الله إلى ما ورد من أحاديث كثيرة يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلمالمسلم بالرفق والتأني عند ظهور الفتن وكثرتها، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج» قالوا: يا رسول الله، أيما هو؟ قال: «القتل القتل» متفق عليه.

قال ابن حجر: قوله: «وتظهر الفتن» فالمراد: «كثرتها، واشتهارها، وعدم التكاتم بها».

       ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به» متفق عليه، قال ابن حجر: «وفيه التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها».

       وقال أيضا: «والمراد بالأفضلية في هذه الخيرية من يكون أقل شرا ممن فوقه على التفصيل المذكور، وقوله: «من تشرّف لها» أي: تطلع لها؛ بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها، وقوله: «تستشرفه» أي: تهلكه، بأن يشرف منها على الهلاك، يقال: استشرفت الشيء: علوته وأشرفت عليه، يريد من انتصب لها انتصبت له، ومن أعرض عنها أعرضت عنه، وحاصله: أن من طلع فيها بشخصه، قابلته بشرها».

       والنبي  صلى الله عليه وسلم يحث على أن يكون المسلم بابا للخير بأنواعه المادية والمعنوية، ولا يكون بابا للشر بأي صورة من صوره، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْر عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ» أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني.

والشر في اللغة: هو السوء والفساد، قال الراغب: «الشر الذي يرغب عنه الكل، كما أن الخير هو الذي يرغب فيه الكل».

       قال السندي في شرح الحديث: «المفتاح بكسر الميم آلة لفتح الباب ونحوه، والجمع: مفاتيح ومفاتح أيضا، والمغلاق بكسر الميم هو ما يغلق به، ولا يبعد أن يقدر: «ذوي مفاتيح للخير» أي: إن الله تعالى أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير كالعلم والصلاح على الناس حتى كأنه ملّـكهم مفاتيح الخير ووضعها في أيديهم؛ ولذلك قال: جعل الله مفاتيح الخير على يديه».

       كما أن النبي  صلى الله عليه وسلم يحث المسلم على الرفق والحلم والأناة، وترك الطيش والعجلة والسفه، فقال  صلى الله عليه وسلم : «التأني من الله، والعجلة من الشيطان»، وقال  صلى الله عليه وسلم  لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة» متفق عليه.

فالتأني: عدم العجلة في طلب شيء من الأشياء، والتمهل في تحصيله والترفق فيه، وقد قال بعضهم: «الأناة حصن السلامة، والعجلة مفتاح الندامة».

والحلم هو ضبط النفس عند هيجان الغضب، وقيل: تأخير مجازاة الظالم على ظلمه.

       ومن فضل الحلم أنه صفة الأنبياء قال تعالى: {إن إبراهيم لأواه حليم}، وقال قوم شعيب له: {إنك لأنت الحليم الرشيد}، وقال تعالى عن إسماعيل: {وبشرناه بغلام حليم}، والنبي  صلى الله عليه وسلم  يؤكد هذه الحقيقة بقوله  صلى الله عليه وسلم : «السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة» أخرجه الترمذي.

وقال  صلى الله عليه وسلم : «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه.

        قال النووي: «فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قلّ من يقدر على التخلق بخلقه، ومشاركته في فضيلته، بخلاف الأول، وفي الحديث: كظم الغيظ وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة».

        ولنا في رسول الله  صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فكم أوذي في الله، فكان يقابل الإساءة بالإحسان، ويصفح عن المسيء، ويرفق بالجاهل، ويصبر على السفيه، فعن أبي هريرة أن رجلا أتي النبي  صلى الله عليه وسلم  يتقاضاه يطلب حقه فأغلظ له، فهمّ به أصحابه، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا» ثم قال: «أعطوه سنا مثل سنه» يعني بعيرا مثل بعيره، فلما لم يجدوا إلا أفضل من بعيره قال  صلى الله عليه وسلم : «أعطوه، فإن من خيركم أحسنكم قضاء» متفق عليه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «استأذن رهط من اليهود على النبي  صلى الله عليه وسلم  فقالوا: السام عليك، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: «يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: «قلت: وعليكم» متفق عليه، وعن أنس قال: «كنت أمشي مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثم ضحك ثم أمر له بعطاء» متفق عليه قال النووي: «فيه احتمال الجاهلين، والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، وفيه كمال خلق رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وحلمه وصفحه الجميل».

       فالخلاصة أن على المسلم أن يتحلى بالرفق والحلم، ويترك الطيش وهو سرعة الغضب من يسير الأمور، والمبادرة بالبطش، والسرف في العقوبة، ولاسيما عند اختلاط الأمور، وعدم تميز الحقائق، واشتباه الأشياء، فلابد من التمهل وترك العجلة، ومشاورة أهل العلم كما قال تعالى: {وإِذا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}، قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا، فيحجم عنه؟»، وبالله التوفيق.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك