رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 19 سبتمبر، 2011 0 تعليق

الحكمة ضالة المؤمن (36 ) حولهـــا ندنــدن

 

هذه الجملة المختصرة تتكرر على ألسنة كثير من الناس مستشهدين بها عند تقرير بعض الغايات المتفقة، وتأكيد بعض الأهداف المشتركة، فإذا التقت المقاصد واتفقت الوجهات قال أحدهم للآخر : حولها ندندن، أي قد اتفقت مقاصدنا وإن اختلفت عباراتنا أو وسائلنا.

ولا يخفى أن هذه العبارة الوجيزة هي كلام نبوي بليغ، حدد فيه النبي [ بكل وضوح وإيجاز الغاية التي ينبغي للمسلم أن يطلبها، والمقصد الذي ينبغي أن يسعى إليه؛ وذلك لأن تحديد الأهداف يعين على تعيين السبل، وضياع الأهداف يجعل سعي الإنسان عبثا وضلالا؛ لذا كان تحديد الأهداف مهما، كما أن وضوحها لا يقل أهمية؛ لأن الأهداف المبهمة تزيد حيرة الإنسان وتشتته، ولا تعينه على تحديد طريقه؛ لذا نجد أن القرآن الكريم واضح ومحدد ومباشر في تحديد الأهداف العليا للإنسان فقال تعالى:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقال سبحانه:{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}.

      وبين الوسيلة بقوله عز وجلّ: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} فالعبادة والاستعانة والدعاء والتقوى والمجاهدة سبيل لتحقيق أعلى الغايات وأسمى المقاصد.

      وهذا الحديث الكريم يؤكد هذا المعنى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ لِرَجُلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلاةِ؟» قَالَ: أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» أخرجه أبو داود وصححه الألباني.

      قال شراح الحديث: «الدندنة ـ بدالين مفتوحتين ونونين ـ هِيَ أَنْ يَتَكَلَّم الرَّجُل بِالْكَلامِ تُسْمَع نَغْمَته وَلا يُفْهَم، أَيْ: لا أَدْرِي مَا تَدْعُو بِهِ أَنْتَ يَا رَسُول اللَّه وَمَا يَدْعُو بِهِ مُعَاذ إِمَامنَا، وَلا أَعْرِف دُعَاءَك الْخَفِيّ الَّذِي تَدْعُو بِهِ فِي الصَّلاة وَلا صَوْت مُعَاذ، ولا أقدر على نظم ألفاظ المناجاة مثلك ومثل معاذ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرَّجُل الصَّحَابِيّ مُعَاذًا - وَاَللَّه أَعْلَم - لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْم مُعَاذ أَوْ هُوَ مِمَّنْ كَانَ يُصَلِّي خَلْف مُعَاذ، والحاصل: إني أسمع صوتك وصوت معاذ ولكن لا أفهم.

      ومعنى قوله: «حَوْلهَا»: أَيْ حَوْل الْجَنَّة وَالنَّار نُدَنْدِن, وَإِنَّمَا نَسْأَل الْجَنَّة وَنَتَعَوَّذ مِنْ النَّار كَمَا تَفْعَل، كما جاء في الرواية الأخرى : «حول هاتين»، قال المناوي :«أي ما ندندن إلا حول طلب الجنة والتعوذ من النار، فالحقيقة لا مباينة بين ما ندعو به وبين دعائك».

      هذا الحديث العظيم اشتمل على فوائد نفيسة وحكم جليلة منها كما تقدم أهمية تحديد المقاصد والغايات ووضوحها حتى يبذل الإنسان لها السعي المناسب فلا يبالغ ولا يقصر كما قال تعالى :{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}.

      ومن فوائد الحديث أنه على المعلم أن يتفقد تلاميذه، وعلى الشيخ أن يتابع طلابه، وكذلك الداعية عليه أن يوجه المدعوين، فيبحث عن أحوالهم، ويسأل عن أوضاعهم الدينية؛ فمن كان محسنا شجعه وأثنى عليه، ومن كان مخطئا نصحه ووجهه، ومن كان متأولا علمه وبين له وجه الصواب، كما كان النبي [ يفعل مع الصحابة الكرام، تفقدا ومتابعة وتعليما وتوجيها، ولم يكن يكتف فقط بالبلاغ وإنما يزيد عليه التربية والتوجيه والتعليم.

      ومن فوائد الحديث استحباب الدعاء في الصلاة ؛ فإن الصلاة مناجاة بين العبد وربه، والله تعالى يحب الدعاء ويحب من عبده أن يسأله ويتضرع إليه، ويستحب الدعاء بعد التشهد والصلاة الإبراهيمية وقبل السلام؛ لحديث ابن مسعود حيث علمه [  التشهد ثم قال: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو» متفق عليه، وفي لفظ مسلم:» ثم ليتخير من المسألة ما شاء». ولما قال أبو بكر ] للنبي [ :«علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال [: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»متفق عليه.

      ومن فوائد الحديث تقرير أن سؤال الله تعالى الجنة والاستعاذة به من النار هو طريقة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، وأنه لا ينقص من توحيد العابدين، كما يزعم بعض المتصوفين؛ حيث قرر بعضهم أن العبادة الحقة هي عبادة الله تعالى حبا في ذاته لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، كما قال الغزالي في الإحياء: «العامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه كالأجير السوء ودرجته درجة البله، وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حبا لجماله وجلاله، وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها، بل هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... ويسخرون ممن يلتفت إلى الحور العين «اهـ. ونقل في «الإحياء» عن رابعة العدوية أنه قالت: «ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا في جنته فأكون كالأجير بل عبدته حبا له وشوقا إليه»  ونقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: «إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف نار ولا رجاء جنة»، ونقل عن بعض المتصوفة ولم يذكر اسمه: «من عبد الله لعوض فهو لئيم»،  وغيرها من أقوال لبعض المتصوفة تؤكد هذا المعنى.

      والقرآن الكريم يؤكد أن الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، وسؤال الله الجنة والتعوذ به من النار هو طريقة المرسلين، وسنة النبيين، ومنهج المؤمنين، وهو من توحيد رب العالمين، الذي خلق الجنة والنار، وجعلهما دار القرار لمن شاء من عباده الأبرار والفجار كما قال تعالى:{إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين}، مبينا حال النبيين عليهم السلام : وقال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه }، وقال عزوجل:{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}.

      ووصف سبحانه عباده المؤمنين فقال:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء}،وقال سبحانه: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا}، وقال تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}، والآيات في الترغيب في الجنة والترهيب من النار كثيرة لا تخفى.

      وكان النبي [ أشد الناس خشية لله تعالى كما قال :«إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية»، وكان يسأل الله تعالى الجنة ويستعيذ به من النار كما ورد في الحديث المذكور، وكان يطلب من المسلمين أن يدعوا الله تعالى أن يرزقه (الوسيلة) بعد الأذان لأنها أعلى درجة عند الله فقال [: «الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة «أخرجه أحمد وصححه الألباني وفي لفظ سأله الصحابة: وما الوسيلة ؟ قال: «أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون هو».

      وكان يأمر المسلمين بالاستعاذة من النار وسؤال الله الجنة كما قال [: «استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب جهنم..الحديث، وقال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه سر الجنة»أخرجه الطبراني يعني أفضل موضع فيها، فإنه أعلا درجات الجنة وأعظم مراتبها كما روى الترمذي وغيره أن رسول الله [ قال: «في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس». صححه الألباني.

      فعلى المسلم أن يحدد أهدافه العليا، ويستحضرها أمامه كل حين، ليستعد لها الاستعداد المناسب، ولا يغفل عنها، فلا تستهويه الغفلات، ولا يبطره الأمل، وإنما هو التشمير والعمل، وبالله التوفيق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك