الحكمة ضالة المؤمن (21) الأرواح جنـــود مجنـــدة
يجد الإنسان نفسه - أحياناً - متوافقا مع بعض الناس، منسجما معهم، مرتاحا لهم، أفكارهم متشابهة، وأسلوبهم متماثل. في حين أنه يجد نفسه مع آخرين منقبضا عنهم ، مجانبا لهم، مبغضا للاجتماع معهم، حتى إنه ليؤثر الانفراد على الاختلاط بهم، ويفضل الوحدة على صحبتهم، من غير سبب يذكر، ولا عيب يظهر، وإذا سئل عن سبب اعتزاله لأولئك الرهط، ومفارقته لذلك المجلس أجاب معللا ذلك بقوله: «الأرواح جنود مجندة؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
وأصل هذه المقولة حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به عَنْ عَائِشَةَ ر ضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَ[ يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
وأخرجه مسلم مسندا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله[ قال: «الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، وفي لفظ آخر: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: «قال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد, وأن الخيِّر من الناس يحنّ إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر, فإذا اتفقت تعارفت, وإذا اختلفت تناكرت.
ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام, وكانت تلتقي فتتشاءم, فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم.
وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين, ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف.
قلت -القائل ابن حجر-: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا؛ لأنه محمول على مبدأ التلاقي, فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسبا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء.
وقوله: «جنود مجندة» أي أجناس مجنسة أو جموع مجمعة, قال ابن الجوزي: «ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم, وكذلك القول في عكسه».
وقال القرطبي: «الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها, فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمع فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة؛ ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر , وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها .»اهـ كلام ابن حجر .
وقال النووي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة»: قال العلماء: معناه جموع مجتمعة، أو أنواع مختلفة، وأما تعارفها فهو لأمر جعلها الله عليه، وقيل: إنها موافقة صفاتها التي جعلها الله عليها، وتناسبها في شيمها، وقيل: لأنها خلقت مجتمعة، ثم فرقت في أجسادها؛ فمن وافق بشيمه ألفه، ومن باعده نافره وخالفه.
وقال الخطابي وغيره : تآلفها هو ما خلقها الله عليه من السعادة، أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار، والله أعلم «اهـ.
ويعلل أبو حاتم البستي في (روضة العقلاء)سبب ائتلاف الناس وافتراقهم بعد القضاء السابق بأنه تعارف الروحين، وتناكر الروحين، فإذا تعارف الروحان وجدت الألفة بين نفسيهما، وإذا تناكر الروحان وجدت الفرقة بين جسميهما.
ونقل عن مجاهد قال: رأى ابن عباس رضي الله عنها رجلا فقال: «إن هذا ليحبني» قالوا: وما علمك؟ قال: «إني لأحبه، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
وذكر عن قتادة في قوله عز وجل: {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}، قال: «للرحمة والطاعة، فأما أهل طاعة الله فقلوبهم وأهواؤهم مجتمعة، وإن تفرقت ديارهم، وأهل معصية الله قلوبهم مختلفة ، وإن اجتمعت ديارهم».
ويبين أبو حاتم خطورة هذا التماثل والتقارب بين المتشابهين من الناس وأثر ذلك على دين الشخص وسلوكه فيقول: «إن من أعظم الدلائل على معرفة ما فيه المرء من تقلبه وسكونه، هو الاعتبار بمن يحادثه ويوده؛ لأن المرء على دين خليله، وطير السماء على أشكالها تقع، وما رأيت شيئا أدل على شيء، ولا الدخان على النار، مثل الصاحب على الصاحب، ونقل عن هبيرة أنه قال: اعتبر الناس بأخدانهم، أي: قس الناس بأصدقائهم، وذكر عن الإمام مالك أنه قال: «الناس أشكال كأجناس الطير؛ الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، وكل إنسان مع شكله».
قال أبو حاتم: «العاقل يجتنب مماشاة المريب في نفسه، ويفارق صحبة المتهم في دينه؛ لأن من صحب قوما عرف بهم، ومن عاشر امرأ نسب إليه، والرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله، فإذا لم يجد المرء بدا من صحبة الناس تحرّى من زانه إذا صحبه، ولم يشنه إذا عرف به».
ويقرر أبو حاتم أن ما قد يجده المرء في نفسه من اتفاق أو افتراق قد يؤكده الواقع بعد حينٍ حينَ تنجلي الأمور وتتكشف الحقائق فيقول: «إن من الناس من إذا رآه المرء يعجب به، وإذا ازداد به علما ازداد به عجبا، ومنهم من يبغضه حين يراه، ثم لا يزداد به علما إلا ازداد له مقتا ، فاتفاقهما باتفاق الروحين قديما، وافتراقهما يكون بافتراقهما».
وأخيرا، مع تسليمنا بدلالة هذا الحديث إلا أن الشرع يؤكد على ضرورة مصاحبة الأخيار، ولزوم اجتناب الفجار، فكون المرء يميل إلى الأشرار ويبغض الأخيار ليس مبررا لما يتبع ذلك من مخالفات شرعية؛ لأنه مأمور بالصبر على صحبة الأخيار كما قال عز وجل: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.
لاتوجد تعليقات