الحكمة ضالة المؤمن (15) إن بعـض الظـن إثـم
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.
قال الطاهر بن عاشور: «وجملة {إن بعض الظن إثم} استئناف بياني لأن قوله: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، يستوقف السامع ليتطلب البيان فاعلموا أن بعض الظن جرم، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي إليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة، أو ليسألوا أهل العلم»اهـ.
ما الظن؟ وما أنواعه؟
الظن مصدر الفعل (ظن الشيء ظنا) أي علمه بغير يقين، ويقال: ظن بفلان أي اتهمه، ويطلق الظن على إدراك الذهن الشيء مع ترجيحه، والظنين: ما لا يوثق به ويطلق على المتهم أيضا.
وقد جاء في القرآن استعمال الظن بمعنى (العلم واليقين) كما في قوله تعالى: {وظن داود أنما فتناه}، وقوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه}، وقوله: {قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله}، وقوله: {وظن أنه الفراق}.
واستعمل الظن بمعنى (الشك) كما في قوله تعالى: {وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}.
واستعمل في القرآن بمعنى (التهمة) كما في قوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، قال ابن كثير: «يَقُول تَعَالَى نَاهِيًا عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كَثِير مِنْ الظَّنّ وَهُوَ التُّهْمَة وَالتَّخَوُّن لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِب وَالنَّاس فِي غَيْر مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ بَعْض ذَلِكَ يَكُون إِثْمًا مَحْضًا فَلْيُجْتَنَبْ كَثِيرٌ مِنْهُ اِحْتِيَاطًا»اهـ.
والمراد بـ(الظن) هنا: الظن المتعلق بأحوال الناس وحُذف المتعلق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم.
وقد ورد الظن في النصوص الشرعية على أوجه وأنواع، منها:
النوع الأول: الظن المحمود:
ومنه حسن الظن بالله تعالى كما قال[: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»، قال النووي: هذا تحذير من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومعنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه.
وقال الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله» أخرجه أحمد.
ومنه حسن الظن بالمسلم كما قال[: «المؤمن غر كريم، والفاجر خبّ لئيم» أخرجه أبو داود، وجعل المؤمن غرا بسبب سلامة صدره وحسن الباطن والظن بالناس فكأنه لم يجرب بواطن الأمور، فترى الناس منه في راحة لا يتعدى إليهم منه شر.
وقال[: «خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق» قيل: ما القلب المخموم؟ قال: «هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد» قيل: فمن على أثره؟ قال: «الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة» قيل: فمن على أثره؟ قال: «مؤمن في خلق حسن».
النوع الثاني: الظن المباح:
وهو الذي يعرض في القلب بسبب يوجب الريبة، قال سفيان الثوري: الظن ظنان، ظن إثم وظن ليس بإثم، فأما الظن الذي هو إثم: فالذي يظن ظنا ويتكلم به، والذي ليس بإثم: فالذي يظن ولا يتكلم به.
وقال القرطبي: «وأكثر العلماء على أَنَّهُ لَا حَرَج فِي الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره القبح»اهـ.
وعقد البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ترجمة بعنوان (باب ما يجوز من الظن) ثم ذكر حديث عائشة قالت: قال النبي[: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا» وفي رواية: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا الذي نحن عليه». قال الليث: كانا رجلين من المنافقين.
قال ابن حجر: «وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه؛ لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن ظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه».
وأما قول ابن عمر: «إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن»، فقد قال ابن حجر: معناه أنه لا يغيب إلا لأمر سيئ إما في بدنه وإما في دينه.
وقال ابن قدامة: «فليس لك أن تظن بالمسلم شرا، إلا إذا انكشف لك أمر لا يحتمل التأويل، فإن أخبرك بذلك عدل فمال قلبك إلى تصديقه كنت معذورا؛ لأنك لو كذبته كنت قد أسأت الظن بالمخبر، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيئه بآخر.. ومتى خطر لك خاطر سوء على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير؛ فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك.. وإذا تحققت هفوة مسلم فانصحه في السر».
النوع الثالث: الظن المحرم:
ومنه سوء الظن بالله تعالى، وهو من الكبائر؛ لأنه يأس وقنوط، قال تعالى عن الكافرين: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية}، وقال عن المنافقين: {وَظَنَنْتُمْ ظَنّ السَّوْء وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}. ومنه سوء الظن بالمسلمين، ومعناه: اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمل الأمرين، قال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}، وعن عُمَر بْن الْخَطَّاب - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: «وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيك الْمُؤْمِن إِلَّا خَيْرًا وَأَنْتَ تَجِد لَهَا فِي الْخَيْر مَحْمَلًا».
وسوء الظن بالمسلمين من الكبائر، وذلك - كما يقول ابن حجر الهيثمي - بأن من حكم بشرّ على غيره بمجرد الظن، حمله الشيطان على احتقاره، وعدم القيام بحقوقه وإطالة اللسان في عرضه وكلها مهلكات.
قال القرطبي: «وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره الْخَيْر لا يَجُوز «.
وقال ابن سعدي: «نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فقال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال والأفعال المحرمة؛ فإن بقاء ظن السوء بالقلب لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا إساءة الظن بالمسلم وبغضه وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه». قال القرطبي: «لَا تَظُنُّوا بِأَهْلِ الْخَيْر سُوءًا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ ظَاهِر أُمُورهمْ الْخَيْر».
كيف يمكن اجتناب الظن كما أمر الله تعالى؟
- أولاً: قال تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، قال الطاهر: «ومعنى الأمر باجتناب؛ كثير من الظن: الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطرارا عن غير اختيار، فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك».
وقال أيضا: ففي قوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن} تأديب عظيم يبطل ما كان فاشيا في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة، وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد، والاغتيالات، والطعن في الأنساب، والمبادأة بالقتال حذرا من اعتداء مظنون ظنا باطلا، كما قالوا: خذ اللص قبل أن يأخذك، ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة؛ فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق.
- ثانياً: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِي[ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنّ فَإِنَّ الظَّنّ أَكْذَب الْحَدِيث، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَنَاجَشُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا».
قال النووي: «المراد النهي عن ظن السوء، قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس فإن ذلك لا يُملك. وقال أيضا: ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به «.
قال القرطبي: «قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالظَّنّ هُنَا وَفِي الْآيَة هُوَ (التُّهْمَة)، وَمَحَلّ التَّحْذِير وَالنَّهْي إِنَّمَا هُوَ تُهْمَة لا سَبَب لَهَا يُوجِبهَا, كَمَنْ يُتَّهَم بِالْفَاحِشَةِ أَوْ بِشُرْبِ الْخَمْر مَثَلا وَلَمْ يَظْهَر عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَدَلِيل كَوْن الظَّنّ هُنَا بِمَعْنَى التُّهْمَة قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجَسَّسُوا}، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَقَع لَهُ خَاطِر التُّهْمَة اِبْتِدَاء وَيُرِيد أَنْ يَتَجَسَّس خَبَر ذَلِكَ وَيَبْحَث عَنْهُ, وَيَتَبَصَّر وَيَسْتَمِع لِتَحْقِيقِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ تِلْكَ التُّهْمَة، فَنَهَى النَّبِيّ[ عَنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ شِئْت قُلْت: وَاَلَّذِي يُمَيِّز الظُّنُون الَّتِي يَجِب اِجْتِنَابهَا عَمَّا سِوَاهَا: أَنَّ كُلّ مَا لَمْ تُعْرَف لَهُ أَمَارَة صَحِيحَة وَسَبَب ظَاهِر كَانَ حَرَامًا وَاجِب الِاجْتِنَاب، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَظْنُون بِهِ مِمَّنْ شُوهِدَ مِنْهُ السَّتْر وَالصَّلاح, وَأُونِسَتْ مِنْهُ الأَمَانَة فِي الظَّاهِر, فَظَنّ الْفَسَاد بِهِ وَالْخِيَانَة مُحَرَّم, بِخِلَافِ مَنْ اِشْتَهَرَهُ النَّاس بِتَعَاطِي الرَّيب وَالْمُجَاهَرَة بِالْخَبَائِثِ». اهـ.
لاتوجد تعليقات