رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 3 يونيو، 2013 0 تعليق

الحكمة ضالة المؤمن-الجواب الرقيق يسكت الغضب

 

الغضب غريزة إنسانية، فهو تغيّر يحصل عند فوران دم القلب؛ ليحصل عنه التشفي وطلب الانتقام، فالإنسان يغضب عندما يستثار، إلا أن الملاحظ في هذا الزمان انتشار سرعة الغضب بين الناس؛ ولأتفه الأسباب، فتقوم الخصومات، وتندلع المضاربات، بل قد يصل الأمر إلى ارتكاب أبشع الجرائم؛ بسبب سَوْرة الغضب وحدة الطبع.

     وربما حمل صاحبه على إيذاء غيره، أو نفسه، كما بين ذلك العلماء بانطلاق لسانه بالشتم، والفحش الذي يستحي منه العاقل، ويندم قائله عند سكون الغضب، ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل، وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه، رجع إلى نفسه، فيمزق ثوبه، ويلطم خده، وربما سقط صريعا، وربما أغمي عليه، وربما كسر الآنية، وضرب من ليس له في ذلك جريمة.

     والشرع المطهر يحثنا على الحلم وضبط النفس، وعدم الاسترسال مع الغضب وآثاره الخطيرة، لئلا يقع الإنسان فيما لا تحمد عقباه، ويندم حيث لا ينفع الندم، كما قال عطاء بن أبي رباح: «ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم، فتهدِمُ عملَ خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله».

     فمن النصوص الشرعية التي تحثنا على الصفح والعفو، قوله تعالى في ذكر صفات عباد الرحمن المحمودة: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)  } (الفرقان: 63)، قال الطبري: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ بِاللَّهِ بِمَا يَكْرَهُونَهُ مِنَ الْقَوْل، أَجَابُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْقَوْل، وَالسَّدَاد مِنَ الْخِطَاب»، ونقل عن الحسن البصري أنه قَال: «حُلَمَاء لَا يَجْهَلُونَ، وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ حَلَمُوا وَلَمْ يُسَفِّهُوا».

      وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الحلم والصفح، وعدم مقابلة الإساءة بمثلها، فعن أنس رضي الله عنه قال: «كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلموعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال : يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- فضحك ثم أمر له بعطاء». متفق عليه.

     قال ابن حجر: «وفي الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل، من الصفح، والإغضاء، والدفع بالتي هي أحسن».

     وجاء زيد بن سعنة الحبر اليهودي قبل إسلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دَيْناً عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه، وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فانتهره عمر وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر: تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي»، ثم قال: «لقد بقى من أجله ثلاث» أي: لم يحن وقت الدين، وأمر عمر يقضيه ماله، ويزيده عشرين صاعا؛ لما روعه، فكان سبب إسلامه، وذلك أن زيدا كان يقول: ما بقى من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد، إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلما، فأخبرته بهذا فوجدته كما وصف» أخرجه الحاكم وابن حبان.

     ويبين النبي الكريم أن الحلم، والصفح، والعفو، من الصفات المحمودة شرعا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه.

     قال النووي: «تعتقدون أن الصرعة الممدوح القوي الفاضل هو القوي الذي لا يصرعه الرجال بل يصرعهم، وليس هو كذلك شرعا، بل هو من يملك نفسه عند الغضب، فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قل من يقدر على التخلق بخلقه، ومشاركته في فضيلته بخلاف الأول، وفيه كظم الغيظ، وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة».

     ولهذا تكررت الوصية منه صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال: «لا تغضب». فردد مرارا، قال: «لا تغضب». أخرجه البخاري.

     قال ابن حجر: «قال الخطابي معنى قوله: «لا تغضب» اجتنب أسباب الغضب، ولا تتعرض لما يجلبه، وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه، لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة.

     وقيل: معناه لا تغضب؛ لأن أعظم ما ينشأ عن الغضب (الكبر)؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب، فالذي يتواضع حتى يذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب. وقيل : معناه لا تفعل ما يأمرك به الغضب.

      وقال ابن التين : جمع صلى الله عليه وسلمفي قوله: «لا تغضب» خير الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه، فينتقص ذلك من الدين.

     ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن أعدى عدو للشخص شيطانه ونفسه، والغضب إنما ينشأ عنهما، فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة كان لقهر نفسه عن الشهوة أيضا أقوى».

     ولا شك أن عاقبة الحلم والعفو حميدة، ومآلها إلى خير، كما قال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34)، قال الطبري: « يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد[: ادْفَعْ يَا مُحَمَّد بِحِلْمِك جَهْلَ مَنْ جَهِلَ عَلَيْك، وَبِعَفْوِك عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْك إِسَاءَة الْمُسِيء، وَبِصَبْرِك عَلَيْهِمْ مَكْرُوهَ مَا تَجِد مِنْهُمْ، وَيَلْقَاك مِنْ قِبَلهمْ. ونقل عَنِ ابْن عَبَّاس أنه قَالَ: «أَمَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْد الْغَضَب، وَالْحِلْم وَالْعَفْو عِنْد الْإِسَاءَة، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمْ اللَّه مِنَ الشَّيْطَان، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوّهُمْ، كَأَنَّهُ وَلِيّ حَمِيم».

وقال عمر بن عبد العزيز: «قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغَضَب، والطمع».

وقال الحسن: «أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان، وحرَّمه على النار: مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة، والرهبة، والشهوةِ، والغَضَب».

     والصبر عند الغضب، والحلم على الجاهل يكسبان الإنسان أعوانا وأنصارا، كما قال علي بن أبي طالب: «إن أول ما عوّض الحليم من حلمه أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل».

     بل إن الإحسان إليه يكسره ويخزيه، كما قال ابن عباس لرجل سبّه: «يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟»، فنكسّ الرجل رأسه واستحى مما رأى من حلمه عليه.

وما أحسن ما قاله الشافعي مبينا فضل الإعراض عن سفاهة الجاهلين:

يخاطبني السفيه بكل قبح

                                فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة فأزيد حلما

                               كعود زاده الإحراق طيبا

وقال أيضا :

إذا نطق السفيه فلا تجبه

                              فخير من إجابته السكوت

فإن كلمته فرّجـت عنـه

                             وإن خليته كمـدا يمـوت

فالله تعالى المسؤول أن يهدينا لأحسن الأخلاق، وأقوم الصفات، وأن يعصمنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه سميع قريب مجيب.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك