الحفاظ على الأمن في منظومة مجلس التعاون الخليجي الحلقة (11) موقف العلماء من اقتحام جُهيمان للحرم المكي
لا شك أن الهاجس الأمني أخذ يحتل المرتبة الأولى على الأصعدة جميعها على مستوى العالم ولاسيما في منطقة الخليج الملتهبة، التي تتصارع على رمالها جميع الدول الكبرى، ويتنافس على ثرواتها كل طامع وحاقد، لقد شاهدنا خلال السنوات القليلة الماضية نشوء العديد من الحركات الإرهابية والمتطرفة التي لم نسمع بها من قبل وممارستها لأبشع الجرائم بحق الإنسانية من تفجير المساجد والمجمعات التجارية، ونحر البشر وإشاعة الفاحشة وغيرها من الجرائم البشعة التي يشيب لها الولدان. وإيمانا من مركز ابن خلدون للدراسات الاستراتيجية بأهمية التركيز على موضوع الأمن وبيان انعكاساته على جميعها نواحي الحياة فقد أفرد المركز هذه الدراسة المهمة بعنوان: (الحفاظ على الأمن في منظومة مجلس التعاون ودور العلماء) التي تتناول الكثير من المواضيع المتعلقة بالأمن على مستوى الخليج العربي والدول العربية، وتربط الدراسة ما بين الإيمان بالله -تعالى- وتطبيق شريعته وما بين الإعداد المادي والمعنوي، والأخذ بجميع الأسباب الممكنة لتحقيق الأمن.
شارك في تلك الحادثة الإجرامية أكثر من200 فرد من الزمرة الضالة من جماعة جهيمان وظلت الجماعة الضالة مسيطرة على المسجد الحرام مدة نصف شهر تقريباً
توقع الضُّلاّل أن يأتي الناس إليهم من خارج الحرم مؤيدين ومبايعين ولكن الحرم حُوصر من قبل الجيش السعودي الباسل وانطلقت الشرارة الأولى من مآذن الحرم لتبدأ المواجهة عسكرية
استكمالا لما بدأناه في الحلقة السابقة عن دور العلماء في الحفاظ على الأمن نتكلم اليوم عن دور علماء الجزيرة في مواجهة حركة جهيمان، ولا شك أولاً أنّ تعظيم المؤمن لشعائر الله -عز وجل- علامة على تقوى قلبه، وخشيته من ربه؛ يقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج: 32), ويدخل في تعظيم تلك الشعائر: المحافظة عليها من عبث العابثين، وتدنيسهم لها، وإفسادهم فيها، وهتكهم لحرمتها.
وقد تجلى هذا التعظيم بوضوح، في موقف علماء الجزيرة من حركة جهيمان، ومن احتلالها للمسجد الحرام، ثم موقف الحكومة السعودية وفقها الله -تعالى- في عهد الملك خالد رحمه الله، في تطهيرها الحرم المكي الشريف من هذه الزمرة الضالة، الخارجة على ولي الأمر، وعن أهل العلم ومشورتهم، وأهل الإسلام عموما، فيما يُعرَف بـحادثة (جهيمان)؛ حيث كانت حدثاً جللا، ومصيبة عظمى، حلّت بالإسلام والمسلمين، والحمد لله على كل حال؛ فالمرءُ يُبتلى على قدر دينه، وأشد الناس بلاءً الأنبياء؛ فالأمثل فالأمثل.
مجريات الأحداث الأليمة
ونود أنْ نعطي القارئ شيئاً من مجريات تلك الأحداث الأليمة لذلك الحدث الجلل، الذي استنكره ليس المسلمون وحدهم، بل وغير المسلمين، وهو بحساب وظن من قاموا به، طاعة وقربة! مع أنهم يزعمون أنهم على هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم -، وخُطى الصحابة الكرام! حتى تكشف الأمر، فتبين عظيم الخطأ والجهل.
تفاصيل دخول الفئة الباغية الحرم المكي حرسه الله
في فجر يوم الثلاثاء الأول من العام والقرن الهجري الجديد 1400 للهجرة، العشرين من نوفمبر 1979م، تم إدخال الأسلحة بالحيلة إلى الحرم المكي؛ فقبل الفجر تم إدخال شاحنتين، الأولى تحوي تمراً وماء، والأخرى ذخيرة، وذلك عن طريق منافذ لدخول الشاحنات، إلى مكان مخصص في الحرم؛ لتعبئة المياه، أما بقية الأسلحة الخفيفة، فقد تم وضعها في نعوش على أنها جثامين سيتم الصلاة عليها بعد الصلاة! وتم إدخال هذه النعوش الوهمية، من أبواب متعددة؛ بهدف توزيع الأسلحة.
كان المنظر طبيعياً؛ فالمصلون اعتادوا رؤية النعوش كل صباح للصلاة على الموتى بعد الفراغ من صلاة الفجر، وسائر الصلوات المكتوبة، ساعد المصلون في حمل النعوش ابتغاء في الثواب، وهم لا يعرفون أنهم يحملون أسلحه في داخل النعوش، أُعدّتْ لاحتلال الحرم المكي الشريف.
وكان قد شارك في تلك الحادثة الإجرامية، أكثر من200 فرد من الزمرة الضالة من جماعة جهيمان الزائغة عن الحق.
فبعد أنْ رفع المؤذن أذان الفجر في المسجد الحرام كعادته كل صباح، وسط تجمع كبير من المسلمين الذين كان بعضهم منهم يؤدي مناسك العمرة، متنقلاً ما بين الكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، فيما كان الطابق الأول من المسجد الحرام ممتلئاً بالمصلين، الذين كان عددهم يزيد على (60 ) ألف شخص، غالبيتهم من الحجاج الذين قضوا مناسكهم، وبقوا بجوار بيت الله الحرام، قبل أسبوعين من الحدث.
وبعد الأذان أقيمت الصلاة؛ حيث تقدم الشيخ محمد بن عبد الله السبيل، ليؤم المصلين الذين وحدوا صفوفهم باتجاه الكعبة؛ استعداداً للصلاة، لكن بعد أن فرغ الشيخ السبيل من الصلاة، التي قرأ في ركعتيها الأولى والثانية ما تيسر من سورة (التوبة) حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد ارتفعت الأصوات بعد تدافع أعداد كبيرة من الناس في كافة أنحاء المسجد الحرام، حتى تمكن أحدهم من الاستيلاء على (المايكروفون) المخصص للإمام، ثم أخذوا بعضَ المصلين رهائن، وتحصَّن بعضُ قناصةٍ منهم في مآذن الحرم، لتتم السيطرة الكاملة على الحرم.
شهادة إمام الحرم المكي على أحداث الزمرة الباغية الضالة
يقول إمام المسجد الحرام الشيخ محمد بن عبد الله السبيّل رحمه الله: إن مشادة حصلت بينه وبين أحد أفراد الزمرة الباغية، بعد سحب (المايكروفون) من أمامه بطريقة مفاجئة، واكبها قيام الشخص نفسه بسحب خنجره مهدداً، إلا أن الشيخ السبيل طلب منه الهدوء؛ لأنه يريد الصلاة على جنازة حاضرة أمامه.
وبعد أن فرغ الشيخ السبيل من الصلاة، استولى المهاجمون على (المايكروفون) وبدأ أحدُهم في توجيه نداءٍ للمصلين؛ يدعوهم فيه للجلوس والاستماع لبيان مهم وسط وجوم وهرج عمّ أرجاء المسجد الحرام، فيما تدافع بعض المصلين فضولاً نحو صحن الطواف لاستجلاء ما يحدث، في الوقت الذي شهدتْ فيه أبواب المسجد الحرام تجمعاً من المصلين الذين لم يستطيعوا مغادرة المسجد؛ بسبب تكتل المسلحين أمام الأبواب، ورفضهم خروج أيٍّ من المصلين إلا بعد الاستماع للخطبة، في محاولة للسيطرة على الأبواب وإحكام إغلاقها.
الرصاصةُ الأولى
عندما حاول أحد أفراد جماعة (جهيمان)، من الجهة الجنوبية إغلاق أحد أبواب الحرم؛ حاول أحد حراس الحرم منعه وهو أعزل من السلاح، فضُربت الرصاصةُ على حلقة معدنية في الباب؛ فارتدتْ عليه وأردته قتيلاً.
ما إن أطلقت أول رصاصة داخل المسجد الحرام، حتى دبَّ الرعبُ في نفوس المصلين الذين أدركوا أن الأمر ليس عادياً، وأن أمراً خطيراً يدور داخل أروقة المسجد الحرام، إلا أن أعداد الطلقات كانت في تزايد، وفي أنحاء متفرقة من المسجد، فيما كان خطيبٌ مجهولٌ يتحدث عن (المهدي) وعلاماته، ومميزاته، وأهدافه، وكيفية مبايعته، ويسرد بعض الأحاديث التي تصف المهدي في محاولة منه لإقناع الناس بمهديهم المزعوم! ومما ذكر في خطبته:
- أولاً: أن المهدي اسمه: محمد بن عبد الله.
- ثانيا: نسبه من قريش، من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم -، من ولد فاطمة رضي الله -تعالى- عنها.
- ثالثاً: أن الله تعالى يخُـْـرِجُهُ في ليلةٍ.
- رابعاً: أنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف.
- خامسـاً: أنه يظهـر إلى من ملأ الأرض ظلماً وجـوراً، فيملـؤها قسـطاً وعدلاً.
- سادسا: أنه يُبايَع بين الركن والمقام.
ومما جاء في خطبته: «... فاعلمـوا أيها المسلمون.. أنه انطبقت هذه الصفات كلـها.. على هذا المهدي الذي سوف تبايعون بعد لحظات بين الركن والمقام، وهو موجود معنا الآن! وكذلك أخوكم جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي، وهو موجود أيضـاً معنا الآن».
هذه الكلمات السابقة، مقتبسة من الخطبة الشهيرة التي أُلقيت على مسامع المصلين والمعتمرين، والخطبة أُلقيت على لسان فيصل العجمي، خطيب الجماعة، بعدها بدأ أتباعه بإجبار الناس بالتقدّم نحو الكعبة بين الركن والمقام؛ لمبايعة المهدي المزعوم، فيما بدأ الهرج والمرج، وتم إطلاق النار لتهديد الناس، وإغلاق أبواب الحرم المكي.
كانت جماعة جهيمان تتوقع أنّ من بداخل الحرم من مصلين ومعتمرين، سيُقبِلون على مبايعة المهدي المزعوم باقتناع، ولكن المفاجأة هي محاولة المصلين والمعتمرين الخروج من المسجد الحرام؛ أي تبدد الوهم الكبير الذي زرعه جهيمان.
وتمكن إمام الحرم الشيخ السبيّل - بعد أن ألقى المشلح-، من الخروج من الحرم والإبلاغ عما يحدث، فتمت بعد ذلك محاصرة الحرم المكي بعد أنْ تم قفل أبوابه من قِبَل جماعة جهيمان، واستولى 200 مسلح - ومصادر أخرى تقول كان عددهم 500 مسلح - على الحرم المكي الشريف.
لقد كان هؤلاء الضُّلاّل يتوقعون أن يأتي الناس إليهم من خارج الحرم مؤيدين ومبايعين، ولكن الحرم حُوصر من قبل الجيش السعودي الباسل، وقوى الأمن اليَقِظَة، فاعتقد أتباع جهيمان أنّ الجيش يحول بين دخول الناس لمبايعة المهدي؛ فانطلقت الشرارة الأولى من مآذن الحرم لتبدأ مواجهة عسكرية، فيما انطلق جهيمان مصطحباً معه (محمد بن عبدالله القحطاني) وهو المهدي المزعوم، إلى أقبية الحرم؛ لإدارة العمليات.
وظلت جماعة (جهيمان العتيبي) الضالة الخارجة، مسيطرة على المسجد الحرام، مدة نصف شهر تقريباً، إلى أن تيسّر للحكومة السعودية حسم هذا الوضع الخطير، بعد خططٍ أحكمتها بتوفيق الله تعالى.
لاتوجد تعليقات