الحفاظ على الأمن في منظومة مجلس التعاون الخليجي الحلقة (13) القضاء على الفتنة التي قامت بالمسجد الحرام
لا شك أن الهاجس الأمني أخذ يحتل المرتبة الأولى على الأصعدة جميعها على مستوى العالم ولاسيما في منطقة الخليج الملتهبة، التي تتصارع على رمالها جميع الدول الكبرى، ويتنافس على ثرواتها كل طامع وحاقد، لقد شاهدنا خلال السنوات القليلة الماضية نشوء العديد من الحركات الإرهابية والمتطرفة التي لم نسمع بها من قبل وممارستها لأبشع الجرائم بحق الإنسانية من تفجير المساجد والمجمعات التجارية، ونحر البشر وإشاعة الفاحشة وغيرها من الجرائم البشعة التي يشيب لها الولدان. وإيمانا من مركز ابن خلدون للدراسات الاستراتيجية بأهمية التركيز على موضوع الأمن وبيان انعكاساته على جميعها نواحي الحياة فقد أفرد المركز هذه الدراسة المهمة بعنوان: (الحفاظ على الأمن في منظومة مجلس التعاون ودور العلماء) التي تتناول الكثير من المواضيع المتعلقة بالأمن على مستوى الخليج العربي والدول العربية، وتربط الدراسة ما بين الإيمان بالله -تعالى- وتطبيق شريعته وما بين الإعداد المادي والمعنوي، والأخذ بجميع الأسباب الممكنة لتحقيق الأمن.
هذه الحادثة أقضت مضاجع العالم الإسلامي وألهبت مشاعره وقابلها بالاستنكار لأنها عدوان على البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً
حصل بهذه الحادثة الشنيعة ظلمٌ كثير، وفساد عظيمٌ وبلاء كبير، ولا نعلم أنه مرّ بالمسجد الحرام مثل هذه الحادثة، لا في الجاهلية ولا في الإسلام
استكمالا لما بدأناه في الحلقة السابقة عن دور العلماء في فتنة جهيمان نذكر بيان العلامة الإمام عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في حادثة جهيمان، كذلك قد كتب العلامة الإمام عبدالعزيز بن باز -رحمه الله تعالى- في هذه الحادثة الآثمة، بياناً هذا نصه: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن الحادثة النكراء، والجريمة الشنعاء، التي قامت بها جماعة من المسلمين بعد صلاة الفجر من يوم الثلاثاء الموافق 1 / 1 / من عام 1400 هجرية، باقتحامهم المسجد الحرام، وإطلاقهم النار بين الطائفين والقائمين، والركع السجود، في بيت الله الحرام، أقدس بقعة وآمنها، قد أقضت مضاجع العالم الإسلامي، وألهبت مشاعره، وقابلها بالاستنكار الشديد؛ وما ذاك إلا لأنها عدوان على البيت الحرام، الذي جعله الله مثابةً للناس وأمنا، وانتهاك لحرمته، وحرمات البلد الأمين، والشهر الحرام، وترويع للمسلمين، وإشعال لنار الفتنة، وخروج على ولي أمر البلاد بغير حق.
ولا شك أن هذا الإجرام يعد من الإلحاد في حرم الله، الذي قال الله فيه: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الحج: 25. ويعد ترويعا للمسلمين، وإيذاء لهم وظلما وعدوانا
وقد قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} الأحزاب: 58، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} الفرقان: 19، وقال عز وجل: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} الشورى: 8.
يضاف إلى ذلك حملهم السلاح، وإطلاقهم النار على رجال الأمن، الذين أرادوا إطفاء فتنتهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَمَل علينا السلاح، فليس منا».
ونهى عن حمل السلاح في الحرم، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «إنّ هذا البلد حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُسفك فيه دم، ولا يُعْضد فيه شجره».
وقال أيضا -عليه الصلاة والسلام-: «إنّ هذا البلد لم يُحل القتال فيه لأحدٍ قبلي، ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أحل لي ساعة من نهار، وقد عادت حُرمتُه اليوم كحرمته بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب».
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد تعدّى شرّ هذه الفتنة وضررها، إلى كثير من الحجاج وغيرهم.
يضاف إلى ذلك إغلاقهم أبواب المسجد الحرام، ومنعهم بذلك الداخلين والخارجين، وبذلك تدخل هذه الطائفة تحت قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} البقرة: 114.
وبالجملة فقد حصل بهذه الحادثة الشنيعة ظلمٌ كثير، وفساد عظيمٌ وبلاء كبير، ولا نعلم أنه مرّ بالمسجد الحرام مثل هذه الحادثة، لا في الجاهلية ولا في الإسلام.
أما تسويغهم لظلمهم وعدوانهم وفسادهم الكبير، بأنّهم أرادوا إعلان البيعة لمن زعموه المهدي، فهذا تسويغ فاسد، وخطأ ظاهر، وزعم لا دليل عليه، ولا يجوز أنْ يستحلوا به حُرمة المسجد الحرام، وحرمة المسلمين الموجودين فيه، ولا يبيح لهم حمل السلاح وإطلاق النار على رجال الأمن، ولا على غيرهم؛ لأن المهدي المنتظر من الأمور الغيبية، التي لا يجوز لأي مسلمٍ أنْ يجزم بأن فلانا ابن فلان هو المهدي المنتظر؛ لأن ذلك قولٌ على الله وعلى رسوله بغير علم، ودعوى لأمرٍ قد استأثر الله به حتى تتوافر العلامات والأمارات التي أوضحها النبي -صلى الله عليه وسلم - وبين أنها وصف المهدي، وأهمها وأوضحها أن تستقيم ولايته على الشريعة، وأن يملأ الأرض عدلا كما مُلئت جوراً مع توافر العلامات الأخرى، وهي: كونه من بيت النبي -صلى الله عليه وسلم -، وكونه أجلى الجبهة أقنى الأنف، وكون اسمه واسم أبيه يوافق اسم النبي -صلى الله عليه وسلم - واسم أبيه، وبعد توافر هذه الأمور كلها، يمكن المسلم أنْ يقول: إنّ من هذه صفته هو المهدي.
أما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي، فهو مخالفٌ للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم والإيمان، لأن المرائي مهما كثرت لا يجوز الاعتماد عليها في خلاف ما ثبت به الشرع المطهر؛ لأن الله -سبحانه- أكمل لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة قبل وفاته عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز لأحدٍ أن يعتمد شيئا من الأحلام في مخالفة شرعه عليه الصلاة والسلام، ثم إن المهدي قد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه يحكم بالشرع المطهر، فكيف يجوز له ولأتباعه انتهاك حرمة المسجد الحرام؟ وحرمة المسلمين؟ وحمل السلاح عليهم بغير حق؟ وكيف يجوز له الخروج على دولة قائمة، قد اجتمعت على رجل واحد وأعطته البيعة الشرعية فيشق عصاها ويفرق جمعها، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- فيما صح عنه: «من أتاكم وأمركم جميع، يريد أنْ يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه كائناً من كان «خرجه مسلم في صحيحه.
ولما بايع النبي -صلى الله عليه وسلم - أصحابه بايعهم على ألا ينازعوا الأمر أهله، وقال: «إلا أنْ تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان»، وهذه الدولة - بحمد الله - لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها، وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج، الذين يكفرون المسلمين بالذنوب، ويقاتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان، وقد قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم - إنهم: «يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية «وقال: أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة» متفق عليه. والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة، وقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم -: «منْ رأى من أميره شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة؛ فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية»، وقال -عليه الصلاة والسلام- في حديث الحارث الأشعري: «وأنا آمركم بخمسٍ، الله أمرني بهن: الجهاد، والسّمع، والطاعة، والهجرة، والجماعة؛ فإنّ من فارق الجماعة شبراً، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع»، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، نشر في العدد الخامس من مجلة البحوث الإسلامية سنة 1400هـ.
لاتوجد تعليقات