رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. كمال محمد جاه الله الخضر 21 نوفمبر، 2018 0 تعليق

الحراك التنصيري في الأقاليم الإفريقية (1)

 

تحاول هذه الورقة رصد الحراك التنصيري في الأقاليم الإفريقية المختلفة, عبر رصد حركة التنصير في كلّ إقليم على حدة، لمعرفة الوسائل التي يستخدمها، والفئات التي يستهدفها، والمجالات التي يركّز فيها نشاطه.. إلخ، ولكي تحقق هذه الورقة ما تستهدفه؛ فإنها ستتناول المحاور الآتية:  حول مفهوم الحراك التنصيري، إفريقيا والحراك التنصيري،  الحراك التنصيري في الأقاليم الإفريقية.

مفهوم الحراك التنصيري

     إن مفهوم (الحراك التنصيريChristian mobility) الذي يتصدّر عنوان هذه الورقة يتكوّن من كلمتين، أولاهما (الحراك mobility)، وهو من المصطلحات التي شاع استخدامها في مختلف العلوم، لا سيما الاجتماعي منها، وبقراءة فاحصة في عدد من المعاجم المتخصصة؛ نجد أن هذا المصطلح يعبّر عن حالة الحركة، ويُشار في بعض المعاجم إلى أنه مصطلح بيولوجي يدل على المقدرة على الحركة بانفعال ونشاط.

     ولا يكتفي قاموس علم الاجتماع بالإشارة إلى هذا المصطلح (الحراك) وربطه بالدلالة على الحركة أو المقدرة على التحرك، وإنما يذهب إلى أن الاهتمامات العلمية بمسألة الحراك قد تجاوزت وصفه، إلى محاولة قياسه وحساب النتائج المترتبة عليه، ومن جهة أخرى فإن هذا المصطلح لا تفهم أبعاده دون ربطه بمستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لأي مجتمع من المجتمعات.

     أما الكلمة الثانية في مفهوم الحراك التنصيري فهي (التنصيري)، وواضح أنها كلمة منسوبة إلى التنصير، والتنصير في أبسط تعريف هو: حركة ظهرت إثر الحروب الصليبية، بغية نشر النصرانية بين الأمم المختلفة، ولاسيما بين المسلمين من أجل القضاء على الإسلام.

والنصرانية المشار إليها في هذا التعريف -في نظرنا نحن المسلمين- هي الدين الذي انحرف عن الرسالة التي أُنزلت على عيسى -عليه السلام- مكمّلة لرسالة موسى -عليه السلام- ومتمّمة لما جاء في التوراة.

     وعلى ذلك؛ فإنني أعني بـ (الحراك التنصيري) الهمّة التي تدفع المنصّرين لتحقيق أهدافهم وأحلامهم، والحركة المستمرة لتذليل العقبات التي تقف أمامهم والصبر عليها, كما أعني به القدرة والمهارة على الاستعانة بالوسائل التي يتيحها عصر العولمة وتقنية المعلومات، فضلا عن الجهود الجبارة التي يبذلونها، وانتهازهم للسوانح المختلفة للقيام بأعمالهم في مجال التنصير، وكلّ ذلك منطلقه معرفة دقيقة بإحداثيات تاريخية، وجغرافية، وديموغرافية.. إلخ عن المجتمع الذي يجري تنصيره.

إفريقيا والحراك التنصيري

     لم تعد قارة إفريقيا كما كانت في نظرة قدامى الأوروبيين، المستعمرين منهم والمنصّرين مجرد منطقة يتحتم تأمينها بغية الوصول إلى خيرات جنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية، كما تحدّثنا كتب الجغرافيا؛ فقد أصبحت إفريقيا هدفاً في حدّ ذاته، بعد أن اتضح أنها قارة واعدة بالموارد الطبيعية والبشرية المختلفة، ولاسيما بعد أن أخذ الإسلام, ومعه الثقافة الإسلامية واللغة العربية، في القرون الأخيرة، ينتشر في الأقاليم المختلفة لقارة إفريقيا ويتبوأ مكانة متميزة.

     إن عملية تحويل إفريقيا المسلمة إلى قارة مسيحية حلم قديم تقوده البابوية، وتدعمه الدول المسيحية ومجلس الكنائس العالمي، وكلّ الجهات المعادية القوية التي تعمل ضد الإسلام وعقيدته ودعوته في هذا العصر، منذ عهد الحروب الصليبية، ويستمد هذا المخطط قوته من الإمكانات الضخمة التي تُسخّر له, ومن الدعم المادي الكبير الذي يُقدّم له سنوياً لدعم أنشطته وإرسالياته في مختلف دول العالم، ولاسيما في المناطق الإسلامية الفقيرة التي تعاني مختلف الكوارث الطبيعية والبشرية، لغزوها بالمنصّرين بما في أيديهم من غذاء ودواء وكساء مقابل اعتناق النصرانية.

تنسيق كامل

     إن عملية تنصير إفريقيا بأقاليمها شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً, تتم بتنسيق كامل بين الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي وغيرهما من الهيئات التنصيرية من أجل تحقيق ذلك الحلم القديم؛ ولأجله قام البابا بولس الثاني بثلاث زيارات خلال خمس سنوات، زار فيها إفريقيا شرقاً وغرباً، وقد حدّد البابا عام 2000م موعداً لتحقيق هدفه، وهو تحويل القارة الإفريقية إلى قارة مسيحية؛ وذلك نظراً لما يتمتع به القادة المسيحيون من سيطرة على شتى نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية في عدد من دول القارة الإفريقية، وقد أعلن البابا هذا الهدف صراحة لدى استقباله وفداً من أساقفة إفريقيا، قائلاً: ستكون لكم كنيسة إفريقية منكم وإليكم، وآن الأوان لإفريقيا أن تنهض وتقوم بمهمتها الربّانية، وعليكم أيها الأساقفة تقع مسؤولية عظيمة، ألا وهي تنصير إفريقيا!

حلم تنصير إفريقيا

     وإذا كان حلم تنصير قارة إفريقيا كافة لم يتحقق في عام 2000م؛ فإن همّة المنصّرين لم تفتر، وحركتهم لم تتوقف، والزيارات البابوية إلى إفريقيا لم تنقطع، ولعل الزيارة الأخيرة التي قام بها بابا الفاتيكان الجديد بندكتوس السادس عشر Benedictus PP. XVI إلى قارة إفريقيا (إلى الكاميرون وأنغولا على وجه التحديد)، في الفترة من 17 - 23 مارس / 2009م، تكتسب قيمة وأهمية في مضمار الحراك التنصيري في القارة، انطلاقاً من الموضوعات التي ناقشها البابا في لقاءاته، وطبيعة الفعاليات التي تيسر له الاجتماع بها، كما سنشير لاحقاً.

     لقد صرّح بابا الفاتيكان بجملة تصاريح تتدثر بثوب الدين والسياسة، وتلبس ثوب الشفقة والرحمة، كان مما قاله أمام الحشود التي هبّت إلى استقباله في ياوندي بالكاميرون: «أنطلق إلى إفريقيا مع علمي بأنني لا أمتلك شيئاً آخر لأقدّمه لمن ألتقي بهم، إلا المسيح والبشرى السارة في صليبه، وسرّ الحب الأسمى، الحبّ الإلهي الذي ينتصر على كل مقاومة بشرية، ويجعل الغفران وحب الأعداء أمراً ممكناً», وقوله في لواندا بأنغولا في 23 مارس / 2009م: «لا يمكن لقلبنا أن يعرف هوادة ما دام هناك إخوة يتألمون لأجل نقص الغذاء أو العمل أو المسكن، أو ما سوى ذلك من الخيور الأساسية».

اهتمام خاص

يتضح لنا من ذلك أن البابوية كانت - وما تزال - تولي قارة إفريقيا اهتماماً خاصاً، ويزداد هذا الأمر وضوحاً بتتابع الاجتماعات الكنسية للأساقفة (أو ما يُسمّى بالسينودس Synod) التي عقدتها البابوية لتحقيق حلمها في تنصير قارة إفريقيا بجميع أقاليمها.

     ولعلّ آخر هذه الاجتماعات الكنسية للأساقفة (السينودس)، الخاصة بإفريقيا، ذلك السينودس الذي عُقد في الفترة من 4 - 25 أكتوبر / 2009م تحت شعار (الكنيسة في إفريقيا في خدمة المصالحة والعدالة والسلام)، وذلك على أساس أن هناك عدداً من المشكلات المتداخلة التي تعانيها القارة الإفريقية، تتعلق بالحروب، والإرهاب، والاستغلال، والانقسام، ونقص الحوار، وعدم التسامح، والظلم، وأوضاع الفقر.

     وقد حُدّد ضمن مسوّدة الرسالة الختامية (للسينودس)، المشار إليه، «أن الكنيسة لا يُعلى عليها في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، والعناية بالمصابين في إفريقيا, وأن إفريقيا تتقدم والكنيسة تتقدم معها, مقدِّمة لها نور الإنجيل, وقد تكون المياه مضطربة، لكننا قادرون على الوصول إلى ميناء المصالحة والعدالة والسلام من خلال النظر إلى المسيح الرب»؛ كما ورد في قائمة المقترحات النهائية لذلك (السينودس)، نقاط مهمة ذات صلة بالحراك التنصيري، يأتي ضمنها «أن (السينودس) يشجّع كافة المؤسسات والحركات الكنسية العاملة في مجال الصحة، ولاسيما مرض الإيدز، ويطلب من الوكالات الدولية الاعتراف بها ومساعدتها في مهمتها».

عملية الحراك التنصيري

     وقبل أن نقسم قارة إفريقيا إلى أربعة أقاليم، شمالي وجنوبي وشرقي وغربي، لتوضيح عملية الحراك التنصيري، في كل إقليم على حدة، رأينا أن نسبق ذلك التقسيم باستعراض جدول يبيّن عدد النصارى في كل إقليم، ونسبتهم مقارنة بالسكان، ومقارنة بعدد النصارى عالمياً.

     وفي البدء لابدّ من القول: بأن ما سنستعرضه من أرقام ونسب - هنا – مأخوذة عن موسوعة (وكيبيديا Wikipedia)، وهي موسوعة غير مُجمَع على دقة المعلومات التي توردها وقيمتها، ولكن تكتسب معلوماتها قيمة في غياب المعلومات في غيرها, على كلٍّ فإننا يمكننا أن نأخذ تلك النسب والأرقام على سبيل المؤشرات لا غير.تقدّم موسوعة (وكيبيديا) إحصاءات مهمة جديرة بالنظر والتأمل عن النصارى في إفريقيا، بعد أن قسمت القارة إلى خمس مناطق رئيسة، وذلك على النحو المبين في الجدول المرفق:

 إن القراءة الأولية للجدول المرفق تعكس لنا الحقائق الآتية:

- أولاً: أن نسبة المسيحيين في إفريقيا من جملة عدد سكان القارة هي 38.1%، و 5.25% من جملة المسيحيين عالمياً, والنسبة الأولى تدل على أن المنصّرين أفلحوا في أن ينصّروا أكثر من ثلث سكان القارة ويأتي ضمنهم قدماء النصارى في مصر وإثيوبيا وغيرهما.

- ثانياً: أن أكبر عدد للمسيحيين يوجد في إقليم شرق إفريقيا، يليه إقليم غرب إفريقيا، على الرغم من أن نسبتهم مقارنة بالسكان لكل إقليم تُعد أقل من إقليمي وسط إفريقيا والجنوب الإفريقي، اللذين يمثّلان أعلى نسبة للمسيحيين في إفريقيا مقارنة بعدد السكان لكل إقليم (60.8%، و 58.56% على التوالي)، وذلك أن إقليمي غرب إفريقيا وشرق إفريقيا يتفوقان على إقليمي وسط إفريقيا والجنوب الإفريقي؛ من حيث عدد السكان، وتفوّق إقليمي شرق إفريقيا وغرب إفريقيا من حيث عدد المسيحيين ربما يرجع إلى قدم حضور المسيحية وكثرة السكان في الإقليم الأول، وكثرة السكان وكثافة نشاط المنصّرين في الإقليم الثاني.

- ثالثاً: أن إقليم شمال إفريقيا يضم أقلّ المسيحيين عدداً ونسبة ضمن أقاليم قارة إفريقيا المختلفة، ويرجع هذا الأمر إلى عمليتي الأسلمة والتعريب اللتين انتظمتا، سلمياً، دول هذا الإقليم منذ وقت مبكر.

- رابعاً: أن إقليم الجنوب الإفريقي يلي إقليمي شرق إفريقيا وغرب إفريقيا من حيث عدد المسيحيين؛ إذ يحرز المرتبة الثانية بعد إقليم وسط إفريقيا؛ من حيث نسبة المسيحيين مقارنة بعدد السكان، وذلك أن إقليم الجنوب الإفريقي -كما سنعرف لاحقاً- لم تحظ دوله بانتشار الإسلام مثل بقية أجزاء القارة, كما أنه يُعَد من معاقل المسيحية بالقارة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك