الحذيفي: الاستعداد للمـوت
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (الاستعداد للموت)، التي تحدَّث فيها عن الموت وأنه غايةُ كل مخلوق، ونهايةُ كل حيٍّ، مُبيِّنًا كيف يكون استِعدادُ المرء له بالأعمال الصالحة، وأعظمها تحقيق توحيد الله تعالى، كما ذكرَ أسبابَ حُسن الخاتمة وسُوء الخاتمة، وكان مما جاء في خطبته:
كلٌّ يسعَى في هذه الحياة لمنافعِه، وإصلاحِ أموره ومطالبِ معاشِه؛ فمنهم من يُصلِح دينَه مع إصلاحِ دُنياه، وهؤلاء الذين آتاهم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاهم عذابَ النار، ومنهم من يسعَى للدنيا ويُضيِّعُ نصيبَه في الآخرة، وأولئك الذين يتمتَّعُون ويأكلُون كما تأكلُ الأنعامُ والنارُ مثوًى لهم، وكلُّ همٍّ وعملٍ له أجلٌ ينتهِي إليه، قال الله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (النجم: 42).
فسُبحان الربِّ الذي جعلَ في كل قلبٍ شُغلاً، وأودعَ في كل قلبٍ همًّا، وخلقَ لكل أحدٍ إرادةً وعزمًا، يفعلُ إذا شاءَ وأرادَ، ويترُكُ إذا شاء، وإرادةُ الله ومشيئتُه فوقَ كل إرادةٍ ومشيئةٍ، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير: 29). فما شاءَ الله كان، وما لم يشَأ لم يكُن.
الموت غاية كل مخلوق
والموتُ غايةُ كل مخلُوقٍ على الأرض، والموتُ نهايةُ كل حيٍّ في هذه الدنيا، وقد كتبَه الله حتى على الملائكة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومن دونَهم - عليهم الصلاة والسلام -، وملَكُ الموت يمُوتُ، قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (الرحمن: 26- 27).
والموتُ آخرُ الحياة الدنيا، وأولُ الدار الآخرة؛ إذ به ينقطِعُ متاعُ الحياة الدنيا، ويرَى الميتُ بعد موتِه إما النعيمَ العظيمَ، أو العذابَ الأليمَ.
والموتُ آيةٌ من آياتِ الله الدالَّة على قُدرة الله - عز وجل - وقَهره لمخلُوقاته، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام: 61).
والموتُ عدلٌ من الله - سبحانه -، تستوِي المخلُوقات فيه، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (العنكبوت: 57).
والموتُ يقطعُ اللذَّات، ويُنهِي من البدَن الحركات، ويُفرِّقُ الجماعات، ويحُولُ دون المألُوفات. تفرَّد الله به مع الحياة، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (المؤمنون: 80).
الموتُ لا يمنعُه بوَّاب، ولا يدفعُه حُجَّاب، ولا يُغنِي عنه مالٌ ولا ولدٌ ولا أصحاب. لا ينجُو منه صغير ولا كبير، ولا غنيٌّ ولا فقير، ولا خطيرٌ ولا حقيرٌ، قال الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (النساء: 78)، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجمعة: 8).
والموتُ يأتي بغتةً بأجل، قال الله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون: 11)، ولا يستأذِنُ على أحدٍ إلا الأنبياء؛ فإنه استأذنَ لكرامتهم على الله - عليهم الصلاة والسلام -، فاستأذنَ على كل أحدٍ منهم. وفي الحديث: «ما من نبيٍّ إلا خيَّرَه الله بين الخلُود في الدنيا ثم الجنة أو الموت، فيختارُ الموت»؛ لما عند الله من الثوابِ الأعظَم، ولحقَارة الدنيا، وشاءَ الله -تعالى- أن يخرُج ابنُ آدم من الدنيا بالموت، ليقطعَ علائِقَه منها، فلا تحِنُّ شعرةٌ منه إليها إذا كان مُؤمنًا.
عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحدٌ له عند الله منزلة يُحبُّ أن يرجِع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيءٍ، إلا الشهيد يتمنَّى أن يرجِع إلى الدنيا فيُقتلَ عشرَ مراتٍ؛ لما يرى من الكرامة»؛ رواه البخاري ومسلم.
والموتُ مُصيبةٌ لا بُدَّ منها، وألمُ الموت لا يقدِرُ أحدٌ أن يصِفَه لشدَّته؛ فالروحُ تُنزعُ به من العُروق واللَّحم والعصَب، وكلُّ ألمٍ شديدٍ فهو دون الموتِ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت عنده قدَحٌ فيه ماء، وهو يُدخِلُ يدَه في القدَح ثم يمسَحُ وجهَه بالموت، ثم يقول: «اللهم أعِنِّي على غمَرات الموت وسكَرات الموت»؛ رواه الترمذي، وفي بعضِ الروايات: «إن للموتِ لسكَرات».
قال رجلٌ لأبيهِ في الاحتِضَار: صِف لي ألمَ الموت للعِبرة. فقال: «يا بُنيَّ! كأنَّ شوكًا معقُوفًا يُجرُّ في جوفِي، وكأنَّما أتنفَّسُ من ثُقبِ إبرة»، وقيل لمُحتضَرٍ آخر: كيف تجِدُ؟ فقال: «كأنَّ الخناجِرَ تختلِفُ في جوفِي»، وقيل لآخر: كيف ألمُ الموت؟ فقال: «كأنَّ نارًا تشتعِلُ في جوفِي».
ذكر الموت
ومن أدامَ ذكرَ الموت رقَّ قلبُه، وصلُح عملُه وحالُه، ولم يتجرَّأ على المعاصِي، ولم يُضيِّع الفرائِض، ولم تغُرَّه الدنيا بزُخرفها، واشتاقَ إلى ربِّه وإلى جناتِ النعيم. ومن نسِيَ الموتَ قسَا قلبُه، وركَنَ إلى الدنيا، وساءَ عملُه، وطالَ أملُه؛ فتذكُّرُ الموت أعظمُ المواعِظ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «أكثِروا ذِكرَ هاذِمِ اللذَّات الموت»؛ رواه الترمذي والنسائي، وصحَّحه ابنُ حبَّان، ومعنى الحديث: أن الموتَ قاطعُ اللذَّات ومُزيلُها.
وعن أُبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهبَ ثُلُث الليل قامَ فقال: «يا أيها الناس! اذكُروا الله، جاءَت الراجِفة تتبَعُها الرادِفة، جاءَ الموتُ بما فيه»؛ رواه الترمذي، وقال: «حديثٌ حسن»، وعن أبي الدرداء قال: «كفَى بالموتِ واعِظًا، وكفَى بالدهرِ مُفرِّقًا، اليوم في الدُّور وغدًا في القُبُور»؛ رواه ابن عساكر.
الاستعداد للموت
والسعادةُ كلُّ السعادة، والتوفيقُ كلُّ التوفيق، والفوزُ كلُّ الفوز في الاستِعداد للموت؛ فالموتُ أولُ بابٍ للجنة أو أولُ بابٍ للنار، والاستِعدادُ للموت بتحقيقِ التوحيدِ لله رب العالمين؛ بعبادةِ الله لا يُشركُ به شيئًا، ومُجانبَة الشركِ كلِّه.
عن أنسٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا ابنَ آدم! إنك لو أتيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً»؛ رواه الترمذي، وقال: (حديثٌ حسن).
الاستِعدادُ للموت بحفظِ الحُدود والفرائِض، قال الله تعالى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(التوبة: 112)، والاستِعدادُ للموت باجتِناب كبائِر الذنوبِ والآثام، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (النساء: 31).
والاستِعدادُ للموت بأداء حقوقِ الخلق، وعدم تضييعها أو المُماطلَة بها؛ فحقُّ الله قد يعفُو عنه إذا كان دون الشركِ، وأما حقوقُ العباد والخلق فلا يعفُو الله عنها إلا بأخذِها من الظالِم وإعطاءِ المظلُوم حقَّه، والاستِعدادُ للموت بكتابة الوصيَّة، وألا يُفرِّطَ في ذلك، والاستِعدادُ للموت بأن يكون مُتأهِّبًا لنُزولِه في كل وقتٍ.
ولما نزلَ قولُ الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَام}(الأنعام: 125)، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «نورٌ يقذِفُه الله في القلب»، قالوا: ما علامةُ ذلك يا رسولَ الله؟ قال: «الإنابةُ إلى دار الخلُود، والتجافِي عن دار الغُرور، والاستِعدادُ للموت قبل نُزولِه»، والسعادةُ أن يُختمَ للميت بخيرٍ؛ ففي الحديث: «الأعمالُ بالخواتِيم»، عن مُعاذٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «من كان آخرُ كلامه: لا إله إلا الله، دخلَ الجنة»؛ رواه أبو داود والحاكمُ بإسنادٍ صحيح؛ ومما يتأكَّدُ العملُ به: تلقينُ المُحتضَرِ الشهادةَ برفقٍ ولُطفٍ؛ بأن يذكُر الشهادةَ ليتذكَّرَها المُحتضَر، ولا يُضجِرَه فإنه في كربٍ شديد، عن أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «لقِّنُوا موتاكم: لا إله إلا الله»؛ رواه مسلم.
والشقاوةُ هي الذُّهولُ عن الموت ونسيانُه، وتركُ الاستِعداد له، والجُرأةُ على المعاصِي والذنوب، وتضييعُ توحيد الربِّ - جل وعلا -، والعُدوانُ والظلمُ بسَفك الدمِ الحرام وأخذ المال الحرام، وتضييعُ حقوق الخلقِ، والانغِماسُ في الشهوات والملذَّات المُحرَّمات، حتى ينزلَ الموتُ فلا ينفعُ عند ذلك الندَم.
ولا يتأخَّرُ الأجل، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 99، 100).
ويوم القيامة تعظُمُ الحسرةُ والندامةُ بالتفريط وعدم الاستِعداد للموت، قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }(الزمر: 55- 59).
حسن الخاتمة
حافِظوا على أسبابِ حُسن الخاتمة؛ بإقامة أركان الإسلام الخمسة، واجتِنابِ المآثِمِ والمظالِم، ومن أعظم أسباب حُسن الخاتمة: دوامُ الدعاء بحُسن الخاتمة، وقد قال -سبحانه-: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ{ (غافر: 60)، فالدعاءُ جِماعُ الخير كلِّه، عن النُّعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «الدعاءُ هو العبادة»؛ رواه أبو داود والترمذي، وقال: (حديثٌ حسنٌ صحيح)، وفي الحديث: «من أكثَرَ من قولِ: اللهم أحسِن عاقِبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة، ماتَ قبلَ أن يُدرِكَه البلاءُ».
سوء الخاتمة
وأسبابُ سُوء الخاتمة عند الموت: تضييعُ حق الله وحقوق الخلق، والإصرارُ على الكبائِر والآثام، والاستِخفافُ بعظمَة الله، والرُّكونُ إلى الدنيا ونسيانُ الآخرة.
لاتوجد تعليقات