الحذيفي: أحكامُ الدعاء وآثارُه على الفرد والمجتمع
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (أحكامُ الدعاء وآثارُه على الفرد والمُجتمع)، التي تحدَّث فيها عن الدعاء بطريقةٍ مُوسَّعةٍ؛ حيث ذكرَ فيها الشيخُ أبرزَ ما يتعلَّق بالدعاء من فضائِل ومنافِع، وآدابٍ، وأحكامٍ، وشروطٍ، وما يُنهَى من صَرف الدعاء لغير الله -تعالى- كلُّ ذلك في ضوء الكتاب والسنَّة، وكان مما جاء في خطبته:
إن من أسباب الصلاح والإصلاح والفلاح، وتتابُع الخيرات، وصَرف النوازِل والعقوبات، ورفع المصائِب الواقعة والكُرُبات: الدعاءَ بإخلاصٍ، وحضُور قلبٍ وإلحاحٍ، فالربُّ - جل وعلا - يُحبُّ الدعاء ويأمر به، والدعاءُ ينفع مما نزل ومما لم ينزِل، قال الله -تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60).
الدعاءُ هو العبادة
كما في حديث النُّعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدعاءُ هو العبادة»؛ رواه أبو داود والترمذي، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيح»، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس شيءٌ أكرمَ على الله من الدعاء»؛ رواه الترمذي وابن حبان في «صحيحه» والحاكم، وقال: «صحيحُ الإسناد».
والدعاءُ مُرغَّبٌ فيه في كل وقتٍ
فهو عبادةٌ يُثيبُ عليها الربُّ أعظمَ الثواب، وهو مُحقِّقٌ للمطالِبِ كلِّها الخاصَّة والعامَّة، الدينية والدنيوية، في الحياة وبعد الممات، ولمنافِع الدعاء العظيمة شرَعَه الله في العبادات المفرُوضة وجوبًا أو استِحبابًا؛ رحمةً من ربِّنا -سبحانه وتعالى-، وتكرُّمًا وتفضُّلاً، لنعملَ بهذا السببِ الذي علَّمَنا الله إيَّاه، ولو لم يُعلِّمنا الدعاءَ لم تهتَدِ إليه عقولُنا، قال الله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} (الأنعام: 91).
الحاجة إلى الدعاء
وتشتدُّ الحاجةُ إلى الدعاء دائمًا ولاسيما في هذا العصر، مع تظاهُر الفتن وكثرَتها، وحُلُول الكوارِث المُدمِّرة، ونزول الكُرُبات بالمُسلمين، وظهور الفِرَق المُبتدِعة التي تُفرِّقُ صفَّ المُسلمين، وتستحِلُّ الدماءَ والأموالَ المعصومة، وتسعَى إلى الفوضَى والتخريب والإفسادِ في الأرضِ، وتجفُو العلمَ وأهلَه، وتُفتِي بالجهل والضلال.
ومع تمالُئِ أعداء الإسلام عليه، وتآمُرهم على أهل الإيمان، والتخاذُل والفُرقة والاختلاف بين المُسلمين، ومع الأضرار التي لحِقَت بكل فَردٍ مُسلمٍ أُخرِج من ديارِه بظُلمٍ، ومسَّه الضُّرُّ، وتعسَّرت حوائِجُه، وضاقَت عليه الأرضُ بما رحُبَت، تشتدُّ الحاجةُ إلى الدعاء في هذه الأحوال العَصِيبة التي يصطَلِي بنارها المُسلمون في بُلدانٍ شبَّت فيها الفتن.
فبالدعاء تُستقبلُ الشدائدُ والكُرُبات إذا لم يقدِر البشرُ على دَفعِها، عن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يرُدُّ القدَرَ إلا الدعاء، ولا يزيدُ في العُمر إلا البِرُّ، وإن الرجُلَ ليُحرَم الرزقَ بالذنبِ يُصيبُه»؛ رواه ابن حبان في (صحيحه) والحاكم، وقال: (صحيحُ الإسناد). وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الدعاءَ ينفعُ مما نزَل، ومما لم ينزِل، فعليكم - عباد الله - بالدعاء»؛ رواه الترمذي والحاكم، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -تعالى- يقول: أنا عند ظنِّ عبدِي بي، وأنا معه إذا دعَاني»؛ رواه البخاري ومسلم، وكفَى بهذا ثوابًا وفضلاً.
كما ذمَّ الله الذين يترُكون الدعاءَ عند نزُول العقوبات، وتظاهُر الفتن، قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (المؤمنون: 76)، وقال - عزَّ وجل -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 42، 43)، وقال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} (الأعراف: 94).
وتركُ الدعاء في الكُرُبات، إصرارٌ على الذنوب، واستِخفافٌ ببطشِ الله الشديد، قال - سبحانه -: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} (البروج: 12)، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102)، والدعاءُ سبَبٌ عظيمٌ لنزول الخيرات والبركات، ودفع الشرِّ أو رفعه عن الداعي وعن المُجتمع.
والدعاءُ أقوَى الأسباب للخروج من الشرِّ الذي وقَع، والمكروه الذي حَلَّ، قال الله -تعالى-: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (الأنبياء: 83، 84)، وقال -تعالى-: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (النمل: 62)؛ أي: لا أحدَ يفعَلُ ذلك إلا الله، وقال - سبحانه -: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الأنعام: 63).
والواجِبُ على المُسلم أن يرغَبَ إلى الله في إصلاح شأنِه كلِّه، وأن يرفعَ إلى ربِّه حوائِجَه كلَّها، ويسألَه كلَّ شيءٍ، وأعظمُ مطلُوبٍ الجنةُ والنجاةُ من النار، قال الله -تعالى- في الحديث القُدسيِّ: «يا عبادِي! كلُّكم ضالٌّ إلا من هدَيتُه، فاستَهدُوني أهدِكم، يا عبادي! كلُّكم جائِعٌ إلا من أطعَمتُه، فاستَطعِموني أُطعِمكُم، يا عبادي! كلُّكم عارٍ إلا من كسَوتُه، فاستَكسُوني أكسُكم، يا عبادي! إنكم تُخطِئون بالليل والنهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا، فاستغفِروني أغفِر لكم»؛ رواه مسلم من حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه -، ومعناه: اسأَلُوني الهدايةَ، والإطعامَ، والكِسوَةَ، والمغفرةَ.
دعوات غيرت مجرى التاريخ
وكم من دعوةٍ غيَّرَت مجرَى التاريخ من شرٍّ إلى خيرٍ، ومن حسنٍ إلى أحسنَ، قال الله -تعالى- عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة: 129)، عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسولَ الله! ما كان بدءُ أمرِك؟ قال: «دعوَةُ أبي إبراهيم، وبُشرَى عيسى، ورأَت أمِّي أنه خرَجَ منها نورٌ أضاءَت له قُصورُ الشام»؛ رواه أحمد، فالمُسلمون في الخير الدائِم بهذه الدعوةِ، والأرضُ نالَتها هذه الدعوةُ.
ودعوةُ نوحٍ - عليه الصلاة والسلام - كانت خيرًا ونجاةً للمُؤمنين المُوحِّدين، وشرًّا على المُشرِكين وهلاكًا، ودعوةُ عيسى - عليه السلام - وأصحابِه الذين يُحصَرون في الطُّور في آخر الزمان، تكون نصرًا للمُسلمين، وهلاكًا ليأجُوج ومأجُوج الذين هم كالجرادِ المُنتشِر الذي يعمُّ الأرض شرًّا، هم شرُّ الخلق، وأشدُّهم فسادًا وطُغيانًا وجبروتًا.
ودُعاءُ النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - سيِّد البشر وأصحابِه في بدرٍ، كان نصرًا للإسلام إلى الأبَد، وخِذلانًا للكفر إلى الأبَد، قال الله -تعالى-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال: 9).
وللدعاءِ شُروطٌ وآداب؛ فمن شروط الدعاء: أكلُ الحلال، ولُبس الحلال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعدِ بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه -: «يا سعد! أطِب مطعمَك تُستجَب دعوتُك»، ومن شروطه: التمسُّك بالسنَّة، والاستِجابةُ لله - تبارك وتعالى - بفعلِ أوامره واجتِناب نواهِيه، قال الله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186)، وقال -تعالى-: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (الشورى: 26).
ومن شروط الدعاء: الإخلاصُ وحُضور القلب، والإلحاحُ على الله، وصِدقُ الالتِجاء إلى الربِّ تعالى، قال -تعالى-: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (غافر: 14)، وفي الحديث: «لا يَقبَلُ الله الدعاءَ من قلبٍ ساهٍ لاهٍ»، ومن شروطه: ألا يدعُو بإثمٍ ولا قطيعة رحِم، وألا يعتَدِيَ في الدعاء.
ومن آداب الدعاء وشروط قَبُوله: ألا يتعجَّلَ الإجابَةَ، بل يصبِرُ، ففي الحديث: «يُستجابُ لأحدكم ما لم يعجَل، يقول: دعَوتُ فلم يُستجَب لي»؛ رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، فدوامُ الدعاء معه الإجابَة، وفي الحديث: «ما على وَجهِ الأرض مُسلِمٌ يدعُو الله بدَعوةٍ إلا آتَاه الله إياها، أو صَرفَ عنه من السوء مِثلَها ما لم يَدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحِم»، فقال رجلٌ: إذًا نُكثِر؟ قال: «الله أكثَر»؛ رواه الترمذي، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيح».
وعلى المُسلمِ أن يتحرَّى أوقاتَ الإجابة، قيل لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الدعاء أسمَع؟ قال: «جَوفُ الليل الآخر، ودُبُر الصلوات المكتوبات»؛ رواه الترمذي، وقال: «حديثٌ حسن»، من حديث أبي أُمامة - رضي الله عنه -، وفي الحديث: «ينزِلُ ربُّنا إلى السماء الدنيا ثُلُث الليل الآخر، فيقول: هل من دَاعٍ فأستجِيبَ له؟ هل من سائِلٍ فأُعطِيَه؟ هل من مُستغفرٍ فأغفِر له؟»؛ رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
لاتوجد تعليقات