رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد 30 يوليو، 2019 0 تعليق

الحج دلالات ومقاصد


للحج مكانة رفيعة في قلوب المسلمين؛ فهو ركن من أركان الإسلام، قال الله -تعالى-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران:97)، وفي الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان». متفق عليه، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما.

     وحين فرض الله علينا هذه الشعائر والعبادات المختلفة من صلاة، وزكاة، وحج، وغيرها فإنه ربط قلوبنا بها على هدف، هو تحصيل أجر الآخرة؛ فوعد القائمين بها والمحافظين عليها بالأمن والسعادة في جنة عرضها السموات والأرض؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 277)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «من حج فلم يرفث، ولم يفسق رجع كما ولدته أمه» (رواه مسلم عن أبي هريرة).

أهداف الحج وغاياته

     مهما يظهر للعبادات من فوائد وحكم، ولطائف وأسرار؛ فإن الواجب على المسلم ألا يربط هدفه عند القيام بها إلا بغاية واحدة وهي التسليم لله والإذعان له -سبحانه- تحصيلا لمرضاته وأجر الآخرة؛ ولذلك فإن أهم أهداف الحج، هو تعظيم ذلك التسليم والإذعان لله في قلوب عباده، وإن التسليم والإذعان هدف من أهداف العبادات كافة، وهو حاضر بقوة في كل ركن من أركان الإسلام، لكنه في الحج أعظم وأقوى.

التسليم هو جوهر أعمال الإسلام

     إن التسليم هو جوهر الإسلام ولب حقيقته، ومعناه تمام الانقياد لأمر الله -تعالى- على وفق مراده في العقيدة والعمل، وإنَّ توافر هذا المعنى في الحج هو الذي جعله ركناً من أركان الإسلام بينما نجد واجبات أخرى على جانب خطير من الأهمية في الدين والحياة ليست من أركان الإسلام، مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والجهاد، وكف الأذى عن الناس؛ فهذه واجبات من الأهمية بمكان، لكنك تجدها واجبات في كل الديانات، في البوذية والهندوسية واليهودية وغيرها؛ فجميع الديانات تحث على بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الناس والجيران، ونحو ذلك؛ لأن هذه واجبات يفرضها المنطق السليم، ويدل عليها العقل المستقيم؛ فالإنسان بمقتضى إنسانيته يستطيع أن يتقبل هذه الواجبات، وأن يجد لها مكاناً في عقله وقناعته، أما أركان الإسلام؛ فإن المعنى المعقول منها، وكذلك الحظ الدنيوي للنفس منها، إما قليل أو مجهول؛ لأن القصد منها هو التعبد وإظهار الخضوع لله بامتثال أمره؛ فالصلاة مثلاُ، لماذا هي خمس فرائض فقط؟ ولماذا الصوم من الفجر إلى الغروب فقط؟ ولماذا الزكاة ربع العشر فقط في المال النقدي بينما هي نصف العشر في الزروع؟ هنا يظهر الفرق الذي جعل الصلاة والصيام والزكاة أركانا للإسلام، دون بر الوالدين وصلة الأرحام، والجهاد؛ فإن معنى التسليم والانقياد لله في أركان الإسلام أكبر من غيرها من الواجبات.

التسليم في الحج أوفى

     فإذا قارنا بين سائر أركان الإسلام من جانب والحج في جانب مقابل، وجدنا معنى التسليم في الحج أعظم وأتم؛ فحين يقوم به المسلم؛ فإنما يقوم به من منطلق أنه عبادة محضة لله ليس للنفس ولا للعقل حظ فيها؛ فأركان الإسلام جميعها عبادات، استجمعت معنى التسليم الكامل لله، لكن أعظم معاني التسليم وأجمعها إنما هي في الحج، ومثله العمرة؛ حيث يقوم بهما العبد لا يحدوه إليهما ولا يدفعه إليهما (حين التلبس بهما) إلا المعنى القلبي، الذي وقر في قلبه بمقتضى الإيمان بالله والتسليم له؛ فبينما نجد لأركان الإسلام بعد الشهادتين قدراً من الفوائد التي يستطيع العقل أن يصل إليها ويدركها، لكنه الحج وحده من بعد الشهادتين قد أتى خلوا من هذه المعاني العقلية؛ ولذلك فإن الرياء لا يداخل الحج والعمرة من جهة ذاتهما، ولكن بسبب خارجي عنهما يعود إلى قصد القائم بهما، دون أن يكون في العمل نفسه ما يلبس النية أو يشتت القصد ولا بأدنى صلة.  

سبب تأخر الحج في ترتيب الأركان

     يتأخر ترتيب الحج بين أركان الإسلام؛ فهو الركن الخامس، أو الرابع قبل الصيام، كما في بعض الروايات؛ فهو يأتي بعد الشهادتين والصلاة والزكاة، مع أنه أسبق من غيره في استجماع مدلول التسليم الذي هو جوهر الدين؛ وذلك التأخر في الترتيب رحمة من الله بعباده؛ فكل عبادة يستطيع أن يقوم بها الإنسان في بيته، دون مشقة انتقال، وعناء وسفر، ونفقات ومصاريف، إلا الحج؛ فإنه يحتاج إلى كل ذلك؛ فكان من رحمة الله بنا أن أخره بين سائر الأركان، وقرنه بشرط الاستطاعة، حين قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}.

من أسرار الإحرام تحرير النية

     إن الدخول في الحج يكون بالإحرام، والإحرام هو نية الدخول في العبادة؛ فالإحرام هو النية، لكننا نلاحظ أن العبادات التي تفتقر إلى نية مثل الصوم والزكاة لا نطلق على النية فيها لفظ الإحرام، لا نقول أحرم بالصوم، أو أحرم بالزكاة، لكن نقول أحرم بالحج وأحرم بالعمرة ونقول أيضاً أحرم بالصلاة، والفرق هو أن العبادات التي يقال أحرم العبد بها، عبادات مركبة من أجزاء غير متماثلة في الشكل؛ فموضوع الصلاة مركب من قيام، وركوع، وسجود، إلى آخره؛ فموضوع الصلاة يشمل القيام بأعمال عدة، ينتظمها لفظ الصلاة شرعاً، وكذلك موضوع الحج مركب من: وقوف بعرفة، وطواف بالبيت، وسعي، ورمي، وغير ذلك، من الأعمال التي نجدها متعددة ومتفرقة في زمنها ولا تندرج تحت نسق واحد، بينما الصوم والزكاة، النية فيهما متجهة إلى عمل بعينه، قد يكون مستداماً لزمن طويل كما في الصوم، لكنه غير متعدد، ولا مركب؛ لذلك تقرر عند أكثر الفقهاء ألا صوم لمن لم يبيت النية؛ لأن صوم كل يوم بذاته غير مرتبط بصوم قبله ولا بعده، وكذلك الزكاة هي عمل واحد غير مركب، من أجل ذلك أُطلِق على النية في جانب الحج والعمرة والصلاة مُسمَّى الإحرام، لحكمتين:

تعظيم النية

- الأولى: هي تعظيم النية في هذه الأعمال، والتنبيه على الاعتناء بتحريرها واستدامتها فهي عمل مركب من أجزاء غير متماثلة؛ ففي الصلاة قيام وركوع وسجود، وفي العمرة إحرام وطواف وسعي، وفي الحج فوق ذلك وقوف بعرفة ورمي ومبيت وهدي؛ فلذلك سميت النية إحراماً في الصلاة، وكذلك في العمرة وفي الحج؛ لأن أعمال الحج متفرقة، على عدد من الأيام، يأتيها الإنسان وهو يخالط الناس ويكلمهم، ويباشر حياته بينهم؛ فلكي يعينه الشرع على استجماع قلبه في عبادته وهو يمارس ذلك ويعايشه، سَمَّى له النية إحراماً، والإحرام يقتضي تحريماً أي اجتناب عدد من المنهيات؛ حيث يكون اجتنابها تنبيها وتحفيزا على تحرير القصد واستمراره، وسط العديد من الملهيات والشواغل التي تتوارد على الحاج ومثله المعتمر بقدر ما وكذلك في أثناء صلاة.

استدامة القصد

- ثانياً: حين حرم الشرع على الحاج والمعتمر أشياءً خارجة عن ذات الحج والعمرة ومدلولهما؛ فحرم عليه العطر والنساء والأخذ من الشعر والأظفار وتغطية الرأس، وغير ذلك؛ فإنه بذلك قد أعانه على تحصيل استدامة القصد ودوام النية؛ إذ الترفه والعناية الزائدة بجسمه ستخرجه لا محالة عن مقصوده، وعن اجتماع قلبه وحضوره في معية الله مع ما يقوم به من مناسك وأعمال.

دلالة التجرد من المخيط

إن تجرد الحاج والمعتمر من المخيط، واجب من الواجبات؛ فإذا وقع في المخالفة بلبس شيء من الثياب؛ فإنه يكون قد وقع في المحظور ووجب عليه الفداء، وإنما منعه الشرع من لباسه المعتاد، وأمره بالتجرد من المخيط، لحكم سامية، من أبرزها:

     إعانته على استجماع نيته واستدامتها؛ لأن في تجرده استحضار لقلبه، واستفراغ لتعلقه بالدنيا وزينتها، واستقواء لسلطان روحه على سلطان نفسه؛ فهو يتذكر بتجرده تلك الحالة التي سيلقى الله عليها حين يكون بين يدي المغسل، وقد أقبل على الله بسياقة الموت، لا حول له ولا قوة؛ فعند ذلك تنعتق روحه في فضاء المناسك، ويتحرر قصده من ربقة التعلق بالدنيا وزينتها.

     كما أن في تجرده استحضارا لقلبه على بساط التواضع لله والخشوع بين يديه، وقد تساوى في ثيابه بغيره من عباد الله، الفقير والغني، والسيد والخادم، والحاكم والمحكوم في زي موحد سواء، عند ذلك تتحصل لغير النفوس القاسية من التواضع، والرق، والعبودية لله ما يكون سبباً في حسن الإقبال على الله -جل في علاه.

التجرد من المخيط خاص بالرجال

     بقدر ما يتحصل للرجال من استجماع للقلب، واستحضار للنية، وتواضع في التجرد من الخيط، بقدر ما يحصل للمرأة من ذلك كله بجمعها لثيابها عليها، وحسن تسترها، في أثناء حجها؛  فهي تؤمر بأن تشد عليها كامل ثيابها فلا يظهر منها إلا الوجه والكفان؛ فلو أمرت بما أُمر به الرجل؛ لتحول الحج إلى درب من اللهو والعبث، ولخلا من المقاصد الروحية، وفيما عدا ذلك فهي تشارك الرجل في كل محظورات الإحرام؛ فيحرم عليها ما يحرم عليه؛ لأنها أيضاً تحتاج إلى حافز خارجي يعينها على تحديد القصد وتعظيم النية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك