الحجُّ مدرسة للتقوى وبابٌ عظيمٌ من أبوابها
لقد أكثر الله -عزَّ وجلَّ- في آيات الحجِّ على قلَّتها من الوصيَّة بالتقوى؛ لأنَّه يحصل في الحجِّ من أسباب التقوى ما لا يحصل في غيره، وذلك مع الوعي الصحيح لحقيقة الحج ومغزاه، وقد تكرَّرت الوصيَّة بتقوى الله في سياق آيات الحجِّ من سورة البقرة، ففي الآية الأولى من هذه الآيات قال الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}، وفي أثناء هذه الآيات قال -سبحانه-: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}، وختم جلَّ وعلا آيات الحجِّ بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
أعظمُ وصيَّة
والتقوى هي أعظمُ وصيَّة وخيرُ زاد ليوم المعاد، وهي وصيَّة الله للأوَّلين والآخرين من خلقه، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه}، وهي وصيَّة النَّبيِّ الكريم -صلى الله عليه وسلم - لأمَّته، فقد كان -صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على سريَّة أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمَن معه من المسلمين خيراً، وكان كثيرَ الوصيَّة بها في خُطبه، ولَمَّا خطب الناسَ في حجَّة الوداع يوم النحر وصَّى الناسَ بتقوى الله، ولم يزل السَّلف الصالح يتواصون بها؛ وذلك لأنَّها خيرُ زاد يبلغ إلى رضوان الله، ولَمَّا قال رجل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه -: اتَّق الله، أجابه عمرُ بقوله: «لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها»، والنقول عن السلف في هذا كثيرة.
منافعُ عظيمةٌ وثمارٌ كريمةٌ
وللتقوى على أهلها منافعُ عظيمةٌ وثمارٌ كريمةٌ وفوائدُ جَمَّةٌ في الدنيا والآخرة، فمن ثمارها حصولُ العلم النافع، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}، وقال تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، ومن ثمارها الخروج من المحن وتحصيل الرّزق الطيِّب وتيسُّر الأمور، قال -تعالى-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وقال- سبحانه-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، ومن ثمارها {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، و{ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} «ومن ثمارها نيلُ الفلاح والفوزُ بالمغفرة، قال -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}»، وقال -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ومن ثمارها حصولُ الرِّفعة في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وحصولُ العاقبة الحميدة، قال الله -تعالى-: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، ومن أجَلِّ ثمارها دخولُ جنَّة الله والتشرُّف برؤيته، قال الله -تعالى-: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.
وثمارُ التقوى لا تُحصَى، وفضائلُها لا تُستقصى، وأكرمُ الناس عند الله أعظمهم تقوىً له سبحانه، قال -تعالى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
مفهوم التقوى
وتقوى الله -جلَّ وعلاَ- أن يجعل العبدُ بينه وبين ما يخافه ويخشاه من غضبه وعقابه وقايةً تقيه، وذلك لا يكون إلاَّ بفعل الأوامر واجتناب النواهي، كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: «المتَّقون اتَّقوا ما حرَّم الله عليهم، وأدَّوا ما فرض عليهم»، وقال عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-: «ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل مع التخليط فيما بين ذلك، ولكنَّ تقوى الله تركُ ما حرَّم الله وأداءُ ما افترض الله»، وقال طلق بن حبيب -رحمه الله-: «تقوى الله أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله».
أساس التقوى
وأساسُ التقوى هو القلب، كما قال -صلى الله عليه وسلم -: «التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره الشريف ثلاث مرَّات»، فمتى أصلح العبدُ قلبَه صلَحَ البدنُ كلُّه تبَعاً لذلك، ومتى خضع القلبُ لطاعة الله خضعت الجوارح، كما قال -صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإنَّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب»، والله -جلَّ وعلا- لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنَّما ينظر إلى القلوب والأعمال، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله لا ينظر إلى صوَرِكم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (.، وإنَّ مِمَّا يُعينُ العبدَ على تحقيق التقوى والعناية بها أن يتذكَّر الموتَ والوقوفَ بين يدي الله والجزاءَ والحسابَ والجنَّةَ والنارَ.
إنَّ وصيَّةَ الله بالتقوى المتكرِّرة في آيات الحجِّ ودعوتَه -سبحانه- لأولي الألباب إلى تقواه تدلُّ على أنَّ أهلَ العقول والألباب ينبغي عليهم -وقد أكرمهم الله بالحجِّ- أن يُعملوا عقولَهم وألبابَهم في تلك المشاعر العظيمة ليستفيدوا منها تقوى الله، فالحجُّ مدرسةٌ عظيمةٌ للتقوى وبابٌ عظيمٌ من أبوابها.
الحاج والتزود بالتقوى
والواجب على مَن أكرمه الله بالحجِّ أن يستفيدَ من حجِّه تقوى الله، وأن يتزوَّد فيه بزادها المبارك، وأن ينهل من معينها العذب، وأن يتقي الله بصيانة حجِّه عن الرَّفث والفسوق والجدال، وأن يتقي الله بحفظ وقته عن كلِّ إسفاف، وأن يشغلَه بذكر الله والنافع من القول، وأن يتقي الله بالحرص على اتِّباع السنَّة ولزوم هدي خير الأمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم -، وبالحذر من البدع والأهواء، وأن يتقي الله في أعمال الحجِّ جميعها من ركن وواجب ومستحبٍّ دون تساهل أو إهمال، وأن يتقي الله بالتفقُّه في دينه والإتيان بعبادته على بصيرة، وأن يتقي الله في إخوانه المسلمين من الحُجَّاج وغيرهم، وأن يكون عوناً لهم على كلِّ خير يلقاهم بطلاقة وجهٍ وصفاء قلب وحسن الحديث، ويتقي الله بتوقير الكبير ورحمة الصغير وتعليم الجاهل وإرشاد الضال، وأن يتقي الله بحفظ لسانه وغضِّ بصره وكفِّ يده، وأن يتقي الله باجتناب الغشِّ والكذب والشُّحِّ والسبِّ والبذاء وسوء الظنِّ.
وكلَّما عظم نصيبُه وحظُّه في حجِّه من التقوى عظم حظُّه ونصيبه من الأجر والثواب، وغفران الذنوب، كما قال الله تعالى: {(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}، أي: فلا إثم عليه لِحطِّ الله ذنوبَه إن كان قد اتَّقى الله في حجِّه، فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه وفعل ما أمره الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلَّفه من حدوده.
لاتوجد تعليقات