رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إعداد: قسم التحرير 3 فبراير، 2021 0 تعليق

الثورات ليست طريقًا للإصلاح بل طريقًا للتخريب والتدمير والفساد

بعد مرور عشر سنوات على ثورات ما سمي بالربيع العربي، تظهر في الأفق تساؤلات عدة مهمة، منها هل الثورات أفادت أوطاننا أم أضرت بها؟ وهل الثورات هي سبيل الإصلاح والتغيير أم غير ذلك؟ وهل دعوة الرسل كانت أقرب إلى ثورة الثوار أم إلى إصلاح المصلحين؟. إن المتأمل لكل نتائج الثورات في عالمنا العربي منذ الخمسينيات وحتى الثورات التي سميت  بالربيع العربي، يجد أكثرها قد زاد بلاده رهقا وعسفا وظلما وتخلفا وتأخرا وتقسيما، ومعظم الدول التي قامت فيها ثورات قسم أهلها نفسيا أو فكريا أو مذهبيا أو عرقيا أو دينيا أكثر من ذي قبل، حتى وصل الأمر إلى التقسيم الجغرافي.

طريق الثورات أم طريق الإصلاح؟

     ومن الأسئلة المهمة والملحة هل التغيير الشامل والهدم الكامل للأنظمة مهما كانت سلبياتها يحقق الصلاح والخير، ويحفظ البلاد والعباد، ويحقن الدماء، ويحافظ على مؤسسات الدولة ويطورها إلى الأحسن في بلادنا العربية؟ أم أنه يؤدى عادة إلى الفوضى العارمة، وتقسيم البلاد والفراغ السياسي والاقتصادي والأمني؟ وهل ما نجح في الغرب بالضرورة سينجح في بلادنا؟ وهل قلب كل شيء وتدمير كل شيء أفضل أم التغيير بالإصلاح الهادئ المتدرج؟

منهج الأنبياء وطريق السلف

     لا شك أن نظرة متأنية وهادئة لمنهج الأنبياء ومنهج السلف توضح الإجابة عن هذه الأسئلة، ولا شك أن الإجابة عن هذه الأسئلة تتضح من خلال تفعيل فقه «المصالح والمفاسد»، وفقه «المآلات والنتائج» فالمفاسد الموجودة في المظاهرات والثورات والويلات التي جرتها على العالم الإسلام لا تخفى على أحد، ونذكر منها ما يلي:

أولا: حدوث الفتن والتقاتل بين المسلمين

     الثورات والمظاهرات بابان للفتن إذا فُتِحا لا يكادان ينغلقان، والفتن هي مفتاح كل الشرور، ولا يخفى ما فعل الثوَّار بالخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ حيث قتلوه، وما ترتب على ذلك من فتن عظيمة، ولا تسل عما يترتب عليها من معارك وقتال يسقط فيه ألوف من القتلى من الفريقين، قال عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ: «يَا بُنَيّ، احْفَظْ عَنِّي مَا أُوصِيكَ بِهِ: «إمَامٌ عَدْلٌ خَيْرٌ مِنْ مَطَرٍ وَبْلٍ، وَأَسَدٌ حَطُومٌ خَيْرٌ مِنْ إمَامٍ ظَلُومٍ، وَإِمَامٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ». (تاريخ دمشق:46/ 184).

إطفاء نار الفتنة

     وهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يُغلق الباب في وجه من يريد إشعال نار الفتنة: فقد أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا، وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: «يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي».فَقَالَا: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ؟ فَقَالَ: «قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ». (رواه البخاري:4515).

الزموا بيوتكم

     وأتى رهط إلى الحسن البصري في زمن فتنة، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا بُيُوتَهُمْ، وَيُغْلِقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: « وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ النَّاسَ إِذَا ابْتُلُوا مِنْ قِبَلِ سُلْطَانِهِمْ صَبَرُوا مَا لَبِثُوا أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ فَزِعُوا إِلَى السَّيْفِ فُوُكِلُوا إِلَيْهِ، وَوَاللَّهِ مَا جَاؤوا بِيَوْمِ خَيْرٍ قَطُّ»، ثُمَّ تَلَا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}. تفسير ابن أبي حاتم (8897)، الشريعة (62)، (طبقات ابن سعد 7/121).

ثانياً: الإخلال بالأمن العام

     من أوائل ما ينتج من الثورات والمظاهرات: الإخلال بالأمن العام، فلا يأمن الناس على دمائهم ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم، ويعيشون متوجسين يتوقعون هجوم الشر عليهم في أي لحظة، ولا تقوم أي دولة للمسلمين إلا بالدين ثم بعنصرين: الاقتصاد والأمن، قال -تعالى- مُمْتَنًّا على قريش: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}، وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}، وقال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا». حسَّنه الألباني.

ثالثاً:  قتل الأبرياء

     ففي المظاهرات والثورات يموت الألوف من الأفراد المتنازعين، ولا يقتصر الأمر على هذا، بل يُقتَل كثير من الأبرياء الذين لا علاقة لهم بما يجري، وليسوا في العير ولا في النفير، بل تأتيهم طلقة طائشة، أو انفجار عشوائي، أو يقتلهم هؤلاء على أنهم منتمون إلى الفئة الأخرى، ويقتلهم أولئك على أنهم من هؤلاء... وهكذا يصبحون بين المطرقة والسندان! قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ. فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» (رواه مسلم:2908)، والمنكر إذا ترتب عليه منكر أكبر لم يجز إنكاره.

مراتب النهي عن المنكر

ولذلك ذكر ابن القيم -رحمه الله- مراتب النهي عن المنكر، قال: «إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ:

- الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ.

- الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ.

- الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ.

- الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ». (إعلام الموقعين 3/ 13)

     قال شيخ الإسلام: «مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمُ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ». (إعلام الموقعين 3/13).

رابعاً:  حدوث الفوضى في البلاد

     يترتب على الثورات فوضى عارمة، تضرب البلاد بطولها وعرضها؛ وذلك لانفراط عقد البلاد بالخروج على حاكمها، وقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - تحذيرًا بليغًا من الخروج على الحكام ولو كانوا فاسقين أو ظالمين؛ لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة تفوق بأضعاف مضاعفة المفاسد التي تترتب على إبقاء حاكم فاسق أو ظالم، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». رواه البخاري (7054)، ومسلم )1849)، قال النووي: « وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ السُّلْطَانُ بِالْفِسْقِ.

     قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَسَبَبُ عَدَمِ انْعِزَالِهِ وَتَحْرِيمِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَتَكُونُ الْمَفْسَدَةُ فِي عَزْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي بَقَائِهِ». (شرح النووي على صحيح مسلم 12/229). وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً (أي: اِسْتِئْثَار الأُمَرَاء بالمال)، وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَأمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ. رواه البخاري (7052)، ومسلم (1843). قال النووي: «هَذَا مِنْ مُعْجِزَات النُّبُوَّة، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْإِخْبَار مُتَكَرِّرًا، وَوُجِدَ مُخْبَره مُتَكَرِّرًا.

وَفِيهِ: الْحَثُّ عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَة، وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا، فَيُعْطَى حَقّه مِنَ الطَّاعَة، وَلَا يُخْرَج عَلَيْهِ وَلَا يُخْلَع، بَلْ يُتَضَرَّع إِلَى اللَّه -تَعَالَى- فِي كَشْف أَذَاهُ، وَدَفْع شَرِّه وَإِصْلَاحه». (شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 232).

وصدق الشاعر؛ حيث قال:

لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لا سَرَاةَ لَهُمْ

                                                  وَلا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا

تُهْدَى الأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأيِ مَا صَلَحَتْ

                                                  فَإِنْ تَوَلَّتْ؛ فَبِالأَشْرَارِ تَنْقَاد

خامساً:  تفرُّق المسلمين وضعفهم

     الثورات والمظاهرات تفرِّق المسلمين وتوقِع الفتن بينهم، مما يؤدي إلى ضعفهم ووهنهم، ومعلوم أن الفرقة والتنازع سبب الضعف والهزيمة، قال -تعالى-: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وقال -تعالى-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهُمَا السَّبِيلُ فِي الْأَصْلِ إِلَى حَبْلِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ». معجم الطبراني الكبير (8971)، وشرح أصول اعتقاد للالكائي (159).

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «المصالح والمفاسد تكون بالنتيجة، هاتِ لي أي ثورة من الثورات صار الناس فيها أصلحَ من ذي قبل؟

إن الأمة الإسلامية قبل أن تختلف كانت مهيبة، يخافها الناس من كل جانب، ونُصِروا بالرعب مسيرة شهر، ولما تفرقوا صار بعضهم يقتل بعضًا، يعني انشغلوا بقتال بعضهم بعضًا». تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة (3/149)، باختصار.

سادساً:  تهجير المسلمين

     ولا يخفى أن المناطق التي تحدث فيها الثورات لا تكون آمنة، فيضطر الناس إلى الهجرة منها، ولا يجدون ملجأ يؤويهم فيصيرون مشردين شذر مذر، أو عالقين على الحدود هنا أو هناك، ومنهم من يموت في طريق التهجير، ومنهم يموت في المخيمات العالقة في الصحراء على حدود البلاد هذه أو تلك، والإخراج من الوطن قهرًا يُعَدُّ من أعظم الابتلاءات؛ ولذا فقد قرنَ الله -تعالى- بينه وبين والقتل، فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}، فسوَّى بين القتل والخروج من الأوطان.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك