رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 9 مارس، 2017 0 تعليق

الثبيتي: منهج إصلاح النفوس

من أصولِ عقيدةِ المسلم الإيمانُ بالقضاءِ والقدر خيرِه وشرِّه، واليقين بأن الأمرَ والتدبيرَ لله

الإيمانُ بالقضاء والقَدَر لا يَعني الاستِسلامَ لأسْرِ الواقع والرِّضا باليأسِ والتثبيط

وجودَ المُتغيِّرات في الحياةِ نعمةٌ عظيمة، تفتَحُ أبواب التفاؤُل وفيها فرصٌ للنجاح والرُّقيِّ والبناء

 

ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (منهج إصلاح النفوس)، التي تحدَّث فيها عن النفس وكيفيَّة إصلاحها، وسُبُل التغيير التي ينبغي على المُسلمين أن يسلُكُوها لتغيير أحوالها نحو الأفضل، مُبيِّنًا أن هذا سُلُوك نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ؛ حيث غيَّر أمورًا كثيرًا في حياتِه وحياةِ أصحابِه -رضي الله عنهم-، وكان مما جاء في خطبته:

     التغييرُ سِمةُ الحياة التي لا ثابِتَ فيها؛ صحةٌ ومرض، ارتِفاعٌ وانحخفاضٌ، عِزٌّ وذُلٌّ، جُوعٌ وشِبَع، فقرٌ وغِنى، زواجٌ وطلاقٌ، أمنٌ وخوفٌ، حزنٌ وفرحٌ، وتقلُّباتٌ اقتصادية، وهذه المُتغيِّرات سُنَّةُ الحياة التي لا مفرَّ منها، ونقرؤُها في أحداثِ التاريخِ على مرِّ العصور، وعندما تتغيَّرُ الحياةُ على نحوٍ سلبِيٍّ تستَدعِي النفسُ الهزيلةُ مشاعِرَ الحزنِ والألم والتشاؤُم، التي تُضعفُ همَّتَها، وتُقعِدُها عن السيرِ في الحياة بجدٍّ ونشاط.

أصول عقيدة المسلم

     ومن أصولِ عقيدةِ المسلم: الإيمانُ بالقضاءِ والقدر خيرِه وشرِّه، واليقين بأن الأمرَ والتدبيرَ لله، وأن تغيُّرات الحياة شأنٌ ربانيُّ لا يُحيطُ بها البشَر، والإيمانُ بالقدَر أقوَى حافزٍ لتجاوزِ المِحَن، والإقدامِ على العمل بعزيمةٍ وثقةٍ، وطلبِ الرزق، ويقِي حياةَ العطاءِ من التعطُّل، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «واعلَم أن الأمة لو اجتمَعَت على أن ينفعُوك بشيءٍ، لم ينفعُوك إلا بشيءٍ قد كتَبَه الله لك، ولو اجتمَعَت على أن يضرُّوك بشيءٍ، لن يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتَبَه الله عليك، رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصحُف».

     هذه الوصيةُ توطِينٌ للنفس على التعلُّقِ باللهِ وحده، في أمورِ معاشِه ومعادِه، فلا يسألُ إلا الله، ولا يطمَعُ إلا في فضلِه، فكما أنه لا يسألُ بلسانِه إلا الله، فلا يتعلَّقُ قلبُه إلا بالله، وبذلك يكتسِبُ العزَّ والشرَفَ، أما المُتعلِّقُ بالخلقِ فيكتسِبُ الذلَّ والسقوطَ، وقال صلى الله عليه وسلم : «من أصابَته فاقةٌ فأنزَلَها بالناس، لم تُسَدَّ فاقَتُه، ومن أنزَلَها بالله، فيُوشِكُ الله له برزقٍ عاجلٍ أو آجلٍ».

     ويُحسِنُ العبدُ ظنَّه بربِّه، مُعتقِدًا أن قضاءَ الله وقدَرَه مبنيَّان على حكمةِ الربِّ، وكمالِ عدلِه، وكمالِ رحمتِه، الذي يُفقِرُ من يشاء، ويُغنِي من يشاء، يُعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء؛ فالمؤمنُ يعيشُ بالرِّضا على كلِّ حالٍ، وإذا رضِيَ عن نفسه وربِّه، اطمأنَّ إلى يومِه وحاضِرِه، وإذا تشرَّبَ اليقينَ بالله، اطمأنَّ إلى غدِه ومُستقبَلِه.

فهم مغلوط

     ولا يَعني الإيمانُ بالقضاء والقَدَر: الاستِسلامَ لأسْرِ الواقع، والرُّكُونَ إلى رُوتِين الحياة، والرِّضا باليأسِ والتثبيط؛ بل يقتَضِي الإيمانُ بالقضاء والقَدَر: دفعَ الأقدار بالأقدار، والأخذَ بالأسبابِ بصبرٍ وثباتٍ، والعملَ على تغيير الحال نحو الأفضل. فكم من فقيرٍ قلَبَ اللهُ حالَه غِنًى؟! وكم من مكرُوبٍ جعَلَ الله له كربَه فرَجًا؟! وكم من مهمُومٍ صيَّر الله همَّه سُرورًا؟! وكم من مريضٍ ألبَسَه الله ثوبَ الصحةِ والعافيَةِ؟! وكم من مظلُومٍ رأَى في الدنيا انتِقامَ الله له من ظالِمِه؟!

يُصابُ الإنسانُ بالهَلَع إذا حلَّ به تغييرٌ مُفاجِئٌ إلا المُصلِّين، قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}(المعارج: 19- 23).

     وقد يغفُلُ الإنسانُ عن تغيير حالِه إلى الأحسَن بالانهِماكِ في تحليلِ الأمور، والبحثِ خلفَ الأحداث، والعيشِ في سرابِ الأماني، فيُضيِّعُ زمانَه، ويُفسِدُ أوقاتَه بالخوضِ فيما لا يَعنيه ولا يُفيده، ورسولُنا الكريمُ صلى الله عليه وسلم يقول: «احرِصْ على ما ينفعُك»، أما التَّشكِّي، واعتِياد السُّخط، والحكمُ بفسادِ الزمان، وإثارَةِ الروح السلبيَّةِ في المُجتمع، فإنها تقتُلُ الطمُوح، وتُثبِّطُ العزائِمَ، وتقضِي على التنمِيَة.

المتغيرات نعمة عظيمة

     يُدركُ المؤمنُ العاقلُ البصيرُ أن وجودَ المُتغيِّرات في الحياةِ نعمةٌ عظيمة، تفتَحُ أبواب التفاؤُل، وتُشرِعُ نوافِذَ الأمل، وفيها فرصٌ للنجاح والرُّقيِّ والبناء، وإذا اشتَدَّ البلاءُ والكربُ فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُ ويبُثُّ الأملَ في النفوس بكلماتِ الثقةِ بموعُودِ الله ونصرِه.

     عن عديِّ بن حاتمٍ قال: بينَا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أتَاه رجلٌ فشكَا إليه الفاقَةَ، ثم أتَاه آخر فشكَا قطعَ السبيل، فقال: «يا عدي! هل رأيتَ الحِيرة؟»، قلتُ: لم أرَها، وقد أُنبِئتُ عنها، قال: «فإن طالَت بك حياةٌ، لتريَنَّ الظعينَةَ ترتَحِلُ من الحِيرَة، حتى تطُوفَ بالبيتِ لا تخافُ أحدًا إلا الله». قُلْت فيما بينِي وبين نفسِي: فأين دَعَّارُو طيءٍّ الذين قد سعَّروا في البلاد؟ «ولئِن طالَت بك حياةٌ لتُفتحنَّ كنوزُ كِسرَى»، قُلْت: كِسرَى بن هُرمُز؟ قال: «كِسرَى بن هُرمُز، ولئِن طالَت بك حياةٌ، لتريَنَّ الرجُلَ يُخرِجُ ملءَ كفِّه من ذهبٍ أو فضَّةٍ يطلُبُ من يقبَلُه منه، فلا يجِدُ أحدًا يقبَلُه منه».

صناعة التغيير

المسلمُ مأمورٌ بصناعةِ التغييرِ إلى الأفضلِ، في نفسِه وسلُوكِه، وحياتِه باختيارِ طريقِ الهُدى والخير، ودفعِ التغييراتِ السلبيَّة، اقتِداءً بهدي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد غيَّرَ كثيرًا من شؤُونِ حياتِه، وحياةِ أصحابِة القوليةِ والفعلية.

سمّى حربًا: سَلمًا، وشِعبَ الضلالة سمَّاه: شِعبَ الهُدى، وسمَّى بني مُغوِيَة: بني رِشدَة، وكان يكرَهُ الأمكِنَةَ المُنكرَة الأسماء؛ ولما قدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ واسمُها “يثرب”، غيَّره بطَيبَة.

غيَّر المفاهيم الخطأ

     ومن هذه المفاهيم: حين قال صلى الله عليه وسلم : «ما تعدُّون الرَّقُوبَ فيكم؟»، قالوا: الَّذي لا يُولَدُ له، قال: «ليس ذاك بالرَّقوبِ، ولكنَّه الرَّجلُ الًّذي لم يُقدِّم من ولدِه شيئًا»، قال: «فما تَعُدُّون الصُّرَعةَ فيكم؟»، قالوا: الذي لا يصرَعُه الرجالُ. قال: «ليس بذلك، ولكنَّه الَّذي يملِكُ نفسَه عند الغضبِ».

     وتأسُرُ المسلمَ أحيانًا قناعاتٌ سلبيَّةٌ تُسيطِرُ على تفكيرِه بأنه عاجِزٌ عن تغييرِ نفسِه نحو الأفضل، وهذه عقبَةٌ كأْداء، تجلِبُ الفردَ بأكملِه إلى الخلف، ولا بُدَّ من تغييرها بقناعاتٍ إيجابية، تُرسِّخُ في قلبِه وعقلِه أنَّ الحياةَ تستحِقُّ العمل، وأن لكل مُشكلةٍ حلاًّ مهما عظُمَت.

ولهذا يصنَعُ أهلُ العزائِمِ التغييرَ الإيجابيَّ في شؤُون حياتهم، فيُحوِّلُون الخصُومات والعداوات إلى محبَّةٍ وأُخُوَّة وصداقةٍ، ويستبدِلُون أصدقاءَ السُّوءِ بالصُّحبَةِ الصالحةِ، ويتغلَّبُون على العاداتِ السيئةِ والتقاليد التي تُخالِفُ الدينَ ولا تدُورُ في فَلَكِه.

أهم خطوات التغيير في حياةِ الإنسان

     من أهم خطوات التغيير تغييرُ الذات والنفس، ومن هنا يبدأُ التغييرُ في حالِ الأمة، التي تشكُو مظاهرَ التخلُّفِ والفقرِ والرجعيَّة، ثم يأتي التسلُّح بالعلم، الذي هو عمُودُ بناء الحضارات وتقدُّمها في كل زمانٍ، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}(الرعد: 11).

مُقتضَيَات التغيير نحو الأفضل

ومن مقتضيات ذلك صلاحُ النيَّة، قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ}(فصلت: 23)، وفي الحديثِ: يقولُ الله - عزَّ وجل -: «أنا عِند ظنِّ عبدِي بي وأنا معَه حين يذكُرُني».

تغيير مذموم

     ومن المُستقِرِّ في الأذهان: أنَّ الإسلام نهَى عن كلِّ تغييرٍ يُحدِثُه الإنسانُ تفسُدُ به حياتُه، ويُضعِفُ دينَه، وينتهِكُ شعائِرَه، ومن ذلك: الاعتِداءُ على الأموالِ والأرواح، وإخلالُ الأمن، وأكلُ أموال الناس بالباطِلِ، والرِّشوةُ، والفسادُ الإداري، وإشاعَةُ الفاحشةِ، وإثارةُ الفِتن.

والمسلمُ بداهَةً لا يقبَلُ بتغييرٍ يُفضِي إلى شرٍّ، ولا يُسهِمُ بحالِه أو مقالِه في تغييرٍ يقُودُ إلى زوالِ النعم، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}(إبراهيم: 28).

     ولنا في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة؛ فقد كان يلتَجِئُ إلى الله، ويستَعِينُه من كلِّ تغييرٍ فيه سُوءٌ وبلاءٌ، يستَعيذُ بالله من الفقرِ، والذلَّةِ، والجُبنِ، والعَجزِ، والكسلِ، وغلَبَةِ الدَّينِ، وقهرِ الرجالِ، وسيِّئِ الأسقام، ويسألُ اللهَ العافيةَ والمُعافاةَ في الدنيا والآخرة، وأن يُجنِّبَ المسلمين الفتَنَ، ويُخلِّصَهم من المِحَن، وليس بنا غِنىً عن تثبيتِ الله لنا طَرفةَ عينٍ، قال الله -تعالى-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}(إبراهيم: 27).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك