رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 16 ديسمبر، 2024 0 تعليق

الثبات على الكتاب والسنة في زمن المتغيرات

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}

 
  • من الدروس المستفادة في محنة الإمام أحمد أن المرء يَثْبُت بإخوانه ويعان بهم بإذن الله عز وجل
  •  الشيخ ابن باز: المشروع للمؤمن دائمًا أن يضرع إلى الله جل وعلا ويدعوه سبحانه أن يثبته على الحق وأن يمنحه العلم النافع والعمل الصالح والفقه في الدين
  •  من أهم سمات التربية في المرحلة المكية الثبات على المبدأ والصلابة في الحق
  •   ينبغي على المسلم أن يدعو الله أن يمنحه الثبات على الحق والعلم النافع
  •  صاحب المنهج الحق سليم الصدر لا يحمل في قلبه حقدًا على أحد وليس لديه رغبة في الانتقام ممن آذوه
  • الشيخ ابن عثيمين: أهم أسباب الثبات على الحق هو الإيمان بالله عز وجل والرضا به والقيام بطاعته بقدر الاستطاعة
  • أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الهداية إلى الصراط فإنه إذا هُدي إلى الصراط أُعين على طاعة ربه وترك معصيته فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة‏
  • من أهم أسباب الثبات على الحق العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وكتابه وسنة نبيه وفهم ذلك على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم
  •  الشيخ الفوزان: من أسباب الثبات على الحق الابتعاد عن الفتن وأهل الفتن والحذر من المروجين لها والدعاة إليها لأنهم دعاة على أبواب جهنم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم
  • من أعظم نعم الله على عبده إطلاقًا هدايته وتثبيته على هذا الدّين بأن يرشده لسنن الهدى ويأخذ بيده إلى سبيل الرّشاد ويبعده عن مسالك الغواية
   

لا شك أن الثبات على الكتاب والسنة الصالح من أبرز سمات أهل الحق؛ فإن هذا المنهج كسفينة نوح، من ركبها وتمسك بها نجا، ومن تركها هلك، فهذا أسلم المناهج، وأصفاها، وأنقاها، وأحكمها، وهو الطريق المستقيم، والحق المبين، والجادة السليمة، والمحجة البيضاء النقية التي تركنا عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والثبات على هذا المنهج مطلبُ كلِّ مؤمن، وهمُّ كل داعية، ولا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الابتلاءات والفتن بمختلف أنواعها، وتنوعت وسائل الإضلال والإفساد والمحن، حتى أصبح القابض على دينه كالقابض الجمر.

 
  • من صفات الثابت على المنهج الحق عدم الخوض في الفتن ما ظهر منها وما بطن وعدم الخوض فيما لا يعنيه
  •  من أسباب الثبات على الحق ترك الغلو والجفاء وسلوك الوسطية فلا تكفير ولا تبديع ولا تفسيق بغير حق ولا تمييع ولا تشدد ولا غلو فلا إفراط ولا تفريط
لا شك أن الثبات على الكتاب والسنة الصالح من أبرز سمات أهل الحق؛ فإن هذا المنهج كسفينة نوح، من ركبها وتمسك بها نجا، ومن تركها هلك، فهذا أسلم المناهج، وأصفاها، وأنقاها، وأحكمها، وهو الطريق المستقيم، والحق المبين، والجادة السليمة، والمحجة البيضاء النقية التي تركنا عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والثبات على هذا المنهج مطلبُ كلِّ مؤمن، وهمُّ كل داعية، ولا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الابتلاءات والفتن بمختلف أنواعها، وتنوعت وسائل الإضلال والإفساد والمحن، حتى أصبح القابض على دينه كالقابض الجمر.

مفهوم منهج السلف

تعريف المنهج لغة وشرعًا: النهج، والمنهج، والمنهاج: الطريق الواضح البيّن، قال الله -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة 48). أي: شريعةً وطريقًا واضحًا بينًا. تعريف السلف لغةً وشرعًا: فالسلف ما مضى وتقدم، يقال: سلف الشيء سَلَفا: مضى، وسلف فلان سلفا: تقدم، والسالف: المتقدم، والسلف: الجماعة المتقدمون، والسلف: القوم المتقدمون في السير، قال الله -تعالى- في كتابه العزيز: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ} (الزخرف: 55-56)، أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفا متقدمين لمن عمل بعملهم، ليعتبر من بعدهم وليتعظ بهم الآخرون. ومنهج السلف هو الإسلام الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، والسلف الصالح، هم أصحاب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهم في كل عصر الفئة التي قال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزالُ طائفةٌ مِنْ أُمِّتي ظاهرينَ على الحقِّ أوْ على الحقِّ ظاهرينَ، لا يضرُّهُمْ مَنْ خذلَهُمْ وفارقَهمْ حتَّى يأتيَ أمرُ اللهِ، أوْ قال حتى تقومَ الساعةُ».

لماذا فُضِّل السلف على مَن بعدهم؟

        لقد فُضّل السلف -رضوان الله عليهم- بنصوص الكتاب والسُنَّة، فأما القرآن الكريم، فقد قال الله -تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100)، وقال -تعالى-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح: 29). وفي السُنَّة النبويَّة أحاديث كثيرة تبين فضل السلف -رضوان الله عليهم- من أهمها: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ الناس قرْني، ثمَّ الَّذين يلونَهم، ثمَّ الَّذين يلونَهم» وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « النجومُ أمنَةٌ للسماءِ، فإذا ذَهَبَتِ النجومُ أتَى السماءَ ما توعَدُ، وأنا أمنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبْتُ أتى أصحابِي ما يوعدونَ، وأصحابي أمنَةٌ لأمَّتِي، فإذا ذهبَ أصحابي أتى أمتي ما يوعدونَ».  

الأمر بلزوم المنهج

         قال الله -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وعن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، «قال أبو معاوية» بعدك قال: «قل آمنت بالله ثم استقم»، ولقد أمر المولى -سبحانه وتعالى- في آيات كثر بلزوم صراطه المستقيم، وأوجب اتباعه على الخلق أجمعين، فقال -سبحانه-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. قال الطحاوي -رحمه الله-: «ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام». وقد ربط ابن القيم -رحمه الله- ربطًا دقيقًا بين الالتزام بالمنهج السلفي والثبوت عليه في الدنيا، وبين الثبوت عند المرور يوم القيامة على الصراط المنصوب على ظهر جهنم؛ حيث يقول: «من هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط، يكون سيره على ذاك الصراط».

أهمية الثبات على المنهج الحق

         الثبات على المنهج الحق -وهو دين الله عز وجل النقي كما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم -، من وصايا الأنبياء والمرسلين، قال -تعالى-: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة:13)، وهو هداية الصراط المستقيم، التي علمنا الله أن نسأله إياها في دعائنا، وفي كل ركعة من صلاتنا، حين نقرأ قوله -تعالى في سورة الفاتحة-: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، والهدايات ثلاثة أنواع: (هداية الإرشاد والتعليم والدلالة، وهداية التوفيق لقبول الحق، وهداية التوفيق للثبات على الحق)، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «ولهذا كان أنفع الدعاء، وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة‏: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}؛، فإنه إذا هداه هذا الصراط، أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر، لا في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏  

طلب الثبات على الحق

        لمَّا كان المسلم مبتلى في دينه، كان طلب الثبات في كل وقت أمرا لازما له وعليه، أما هذه الابتلاءات بالصبر والثبات، وقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن زمان يشتد على المسلم الثبات على الحق، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -]- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ»، وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ»، ويقول شداد بن أوس - رضي الله عنه -: «كان رسول الله يعلمنا كلمات ندعو بهن في صلاتنا: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرشد».

مواقف من ثبات السلف

         إن هذا الدين العظيم نُقل إلينا على أكتاف رجال عِظام، اختارهم الله لهذا الحمل الثقيل: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} رجال كان لثباتهم في الملمات وبذلهم الغالي والرخيص وتضحياتهم الأثر الكبير في دين الله -عز وجل-، حتى توارثت الأجيال قصصهم المشرقة والمضيئة، بل واقتدوا بهم في صمودهم وصبرهم ومواقفهم، وصاروا مثلا يحتذى بهم، ونسوق في هذا المقام بعضًا من النماذج العظيمة لسلف الأمة في بعض مواقفهم المجيدة نصرة لدينهم، ودفاعًا عن الحق الذي تحمّلوه.  

ثبات النبي  صلى الله عليه وسلم 

         سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعلم منها المؤمنون حقيقة الثبات؛ فلهم في ثباته - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة؛ فلقد آذاه المشركون وقتَلوا أصحابه، فلم يتراجع عن دعوته، وساوموه فلم يتنازل عن شيء منها، وأغرَوه بما يغرى به الأكابر من الناس، فما تزحزح عن موقفه، وكان ثابتًا ثبوتَ الجبال الرواسي. ويشهد على ثباته - صلى الله عليه وسلم - رفضُه لِما عرضه عليه رؤساء قريش ذات يوم عند ظهر الكعبة، فقالوا: «إن كنت إنما جئتَ بهذا الحديث تطلب به مالًا، جمعنا لك من أموالنا؛ حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نُسَوِّدُك علينا، وإن كنت تريد به مُلكًا، ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيًا - فربما كان ذلك، بذَلْنا لك أموالنا في طلب الطب لك؛ حتى نُبرئك منه أو نعذر فيك»، فقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُب أَمْوَالكُمْ، وَلَا الشَّرَف فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْك عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُون لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَات رَبِّي وَنَصَحْت لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لِأَمْرِ اللَّه حَتَّى يَحْكُم اللَّه بَيْنِي وَبَيْنكُمْ».

ثبات أبي بكر الصديق - رضي الله عنه 

         كان موقف خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين ابتليت الأمة في زمن خلافته بما تنوء بحمله الجبال، من أروع الأمثلة على الثبات على الحق، فبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من الأمَّة من ارتد، ومنهم من منع الزكاة، وجيش أسامة على مشارف المدينة ينتظر الأمر بالخروج إلى الروم، ولو خرج فمن للمدينة يحميها من المتربصين بها؟ ومن للجزيرة العربية ينابذ الخارجين عن الأمة؟ ولكن الصديق - رضي الله عنه - بما أوتي من قوة العلم، وقوة الإيمان والثبات، يبين وجه الحق لمن استشكل عليه، فلا تفريق بين الصلاة والزكاة، ولو منعوه عقالاً كانوا يؤدونه لقاتلهم عليه، أفيُنتقص الدين والصديق حي؟! ويُنفذ جيش أسامة؛ حيث وصى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما كان الصديق ليحل لواءً عقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحدد مهمته ووصى بها، وهو يقاتل المرتدين؛ حتى يعيدهم لحظيرة الإسلام، ويقضي على فتنة مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، ويباغت من سولت لهم أنفسهم أن يهاجموا المدينة، وقد تصوروا أنها صارت لقمة سائغة لهم؛ لقلة الجند فيها بعد خروج جيش أسامة، فهزمهم بنفسه شر هزيمة في معركة (ذي القصة)، والقصة: موضع قرب المدينة على مرحلة منها، فلم تمضِ مدة خلافته على قصرها إلا وقد وحَّد الجزيرة كما كانت، وأعاد للإسلام هيبته، فكان فضله على الأمة بعد وفاة نبيها - صلى الله عليه وسلم - لا يقل روعة عن حاله في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم .

ثبات الإمام أحمد بن حنبل

         من أهم سمات حياة الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل -رحمه الله- منهجه في العقيدة، والتزامه نهج الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة في التوحيد والصفات وإنزال القرآن، حتى أوذي وامتحن، فصبر وصابر، ولم يتزحزح عن قول الحق، حتى ربط موقفه في محنته بموقف الصديق - رضي الله عنه -، يقول علي ابن المديني: لقد أُعز الإسلام برجلين، بـأبي بكر - رضي الله عنه - يوم الفتنة، وبـأحمد بن حنبل -رحمه الله- يوم المحنة ويقصد محنة القول: بخلق القرآن. لقد ضرب الإمام أحمد -رحمه الله- أروع الأمثلة في الثبات على المبدأ والصبر أمام الفتن، فلم تلن عزيمته، أو يضعف إيمانه أو تهتز ثقته، فمكث في المسجد عامين وثلث عام، وهو صامد كالرواسي، وحُمل إلى الخليفة المعتصم، واتُّخذت معه وسائل الترغيب والترهيب، ليظفر المجتمعون منه بكلمة واحدة، تؤيدهم فيما يزعمون، يقولون له: ما تقول في القرآن؟ فيجيب: هو كلام الله، فيقولون له: أمخلوق هو؟ فيجيب: هو كلام الله، ولا يزيد على ذلك. ويبالغ الخليفة في استمالته وترغيبه ليجيبهم إلى مقالتهم، لكنه كان يزداد إصرارًا، فلما أيسوا منه علَّقوه من عقبيه، وراحوا يضربونه بالسياط، ولم تأخذهم شفقة وهم يتعاقبون على جلد جسد الإمام الواهن بسياطهم الغليظة حتى أغمي عليه، ثم أُطلق سراحه وعاد إلى بيته، ثم مُنع من الاجتماع بالناس في عهد الخليفة الواثق (227- 232هـ/ 841- 846م)، لا يخرج من بيته إلا للصلاة، حتى إذا ولي المتوكل الخلافة سنة (232هـ/ 846م)، فمنع القول بخلق القرآن، وردَّ للإمام أحمد اعتباره، فعاد إلى الدرس والتحديث في المسجد.

من وسائل الثبات على الكتاب والسنة

         إنّ أعظم نعم الله على عبده إطلاقًا هدايته له وتثبيته له على الصراط المستقيم، بأن يرشده لسنن الهدى، ويأخذ بيده إلى سبيل الرّشاد، ويبعده عن مسالك الغواية، وطريق المغضوب عليهم، والضّالين، وباستقامة أهل الإيمان على الدّين، يثبتهم الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ لأنّ الجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان، قال -تعالى-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27)، ومن وسائل الثبات على منهج السلف ما يلي:  

 العلم بالمنهج

         قال ابن القيم -رحمه الله-: «السائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده، إلا بقوتين قوة علمية وقوة عملية؛ فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك؛ فيقصدها سائرا فيها، ويجتنب أسباب الهلاك، ومواضع العطب، وطرائق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل».  

 العلم بالله -تعالى- وأسمائه وصفاته

        من أهم أسباب الثبات على المنهج الحق، العلم بالله -تعالى- وأسمائه وصفاته، وكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وفهم ذلك على منهج السلف الصالح -رضوان الله عليهم- الذين عرفوا مراد الله ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم، فهذه مزية عظيمة مهمة توجب علينا أن نطلب العلم على جادتهم، وأن نحاول فهم الدين بفهمهم؛ لعلنا نحشر معهم، فتلك فضيلة كافية لتحفيز الهمم لمعرفة ما كانوا عليه من الدين الحق ومواصلة السير عليه.  

معرفة الحق الذي كان عليه السلف

         من سبل الثبات على الحق، معرفة ما كان عليه السلف -رضوان الله عليهم- في مسائل الدين جميعها، وألا نقدم شيئًا على الحق الواضح بدليله الساطع من كتاب ربنا -سبحانه- وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وفهم سلفنا الصالح من إجماع أو أثر، فالحق لا يعرف بالرجال ولا بالكثرة، وإنما يعرف الحق بالعلم والحجة.

دع عنك أراء الرجال وقولهم

                                  فقول رسول الله أولى وأشرح

        فإنك إذا عرفت الحق من الباطل والمحكم من المتشابه، والواضح من المبهم، والمجمل من المبين، والناسخ من المنسوخ، والعام من الخاص فكيف تقلد في دينك الرجال؟ وإذا عرفت السابق من اللاحق، فعرفت أحوال القوم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وطلبت اللحاق بهم مع من يطلبون ذلك، وعرفت حال المتأخرين عن ذلك فقد عرفت؛ فالزم.  

الدعاء بالثبات

        من الأمور التي يجب ألا تفارق المؤمن مداومة الدعاء بالثبات والتضرع إلى الله -تعالى- بصدق وإخلاص، والإلحاح عليه -سبحانه- بالتوفيق والسداد في القول والعمل، والثبات على الحق والمنهج القويم والصراط المستقيم الذي هداك إليه، فلا تنظر إلى بُنيّات الطريق، ولا تلتفت إلى مدح الناس أو ذمهم؛ فإن ذلك من معوقات الثبات، فعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القلوب، ثبت قلوبنا على دينك»، فقلت يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء».

الصبر والتواصي بالحق

        الصبر والتواصي بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة وقبولها، من أعظم أسباب الثبات، ومن يتصبر يصبره الله -تعالى-، فإذا صاحبَ ذلك تواضعٌ وحلم فلا تسأل عن عواقبه الحميدة، وثماره السعيدة؛ فقد جعله الله أحد الأسباب الأربعة التي تنجي العبد من الخسارة المحققة في الدنيا والآخرة، قال -جل في علاه-: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.  

لزوم جماعة المسلمين

          إن لزوم جماعة المسلمين وفي مقدمتهم العلماء الربانيين، الذين عرفوا بالثبات على المنهج الحق، من أهم سبل الثبات على دين الله -عز وجل-، فإذا ضبط الإنسان أصول المنهج السلفي وقواعده، عرف معنى الجماعة، وعرف معنى لزوم الجماعة وعدم الفرقة، وعرف من هي الجماعة؟ ومن هم العلماء الذين يمثلون الجماعة مع السواد الأعظم؟ فلزم غرزهم في المشكلات والمسائل العويصات التي تعترضه، فلن يضل ولن يضيع ولن يزل ولن يشقى بإذن الله.  

عدم التلون في الدين

        كثرة التنقل والتلون في دين الله ينافي الثبات على الحق؛ لأن الحق واحد، وكثرة التنقل والتلون في الدين من علامات أهل البدع والأهواء، وصدق حذيفة بن اليمان لما دخل عليه أبو مسعود -رضي الله عنهما- أنه قال له: يا أبا عبد الله اعهد إلينا؟ فقال حذيفة - رضي الله عنه -: «أو لم يأتك اليقين؟ اعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله! فإن دين الله واحد»، وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: «من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل»، فإذا عرف الإنسان المنهج الحق فعليه أن يوطن نفسه عليه، وألا يقبل المساومة والخضوع للشبه الخطافة التي تجره إلى الضلال.  

عدم الخوض في الفتن

         من أهم وسائل الثبات على الحق عدم الخوض في الفتن ما ظهر منها وما بطن، وعدم الخوض فيما لا يعنيه، وعدم الخوض في الجدال والخصومات، مع أهل الأهواء والبدع الذين يلقون الشبه ويجادلون بالباطل، قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: إياكم والفتن لا يشخَص إليها أحد، فوالله ما شخَص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيلُ الدِّمَن، ما الخمر صرفًا بأذهبَ بعقول الرجال من الفتنة، وليأتينَّ على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاء كدعاء الغريق.  

ترك الغلو والجفاء

        من الأسباب المهمة للثبات على الحق ترك الغلو والجفاء وسلوك الوسطية، فلا تكفير ولا تبديع ولا تفسيق بغير حق، ولا تمييع ولا تشدد ولا غلو، فلا إفراط ولا تفريط، فأهل الحق، هم الذين استقاموا على الطريق السوي وساروا على النهج الذي سار عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولًا وعملًا، سائرين على منهجه متحرين أن يفعلوا فعله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يلزموا أمره، وألا يزيدوا، ولا ينقصوا.

الشيخ عبدالعزيز ابن باز - رحمه الله -

الدعاء بالصلاح والثبات على الحق

         قال الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله-: المشروع للمؤمن دائمًا أن يضرع إلى الله -جل وعلا- ويدعوه -سبحانه- أن يثبته على الحق، وأن يمنحه العلم النافع، والعمل الصالح، والفقه في الدين، هكذا ينبغي للمؤمن دائمًا أن يسأل ربه الثبات على الحق، فيقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم إني أسألك الثبات على الحق، اللهم وفقني للاستقامة على الحق، اللهم أصلح قلبي وعملي، اللهم أحسن خاتمتي، ويكثر من ذكر الله في ليله ونهاره، هذا من أسباب الثبات على الحق؛ لأن انقلابه عن الحق من أعظم أسباب الغفلة والإعراض، أو صحبة الأشرار، أما من أكثر من ذكر الله، ولازم الحق، وصحب الأخيار، فسنة الله في مثل هذا التوفيق والهداية والثبات.

الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -

أهم أسباب الثبات

         قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: أهم أسباب الثبات على الحق هو الإيمان بالله -عز وجل-، والرضا به، والقيام بطاعته قدر الاستطاعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيت شحا مطاعًا، وهوىً متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام أو العامة»، نعم هناك (شحّ مطاع) تكالب الناس على حب المال وطلبه، (دنيا مؤثرة) فإن كثيرًا من الناس يؤثر الدنيا على الآخرة، (هوىً متبع) كذلك موجود، (وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه) هذا أيضًا من البلاء، وهو أن الإنسان إذا رأى رأيًا وإن كان ليس عالمًا، رأى رأيًا في أمور الدنيا مثلاً وأعجب به ولا ينصاع إلى غيره ولو تبين أنه الحق، فهنا عليك بخاصة نفسك، فعلى الإنسان أن يصير إلى الله -عز وجل- بحسب ما جاء في القرآن والسنة، وبحسب ما درج عليه السلف الصالح، ويتقي الله ما استطاع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله على بصيرة.

الشيخ صالح بن فوزان الفوزان 

تعلم العلم النافع

        قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: أهم الأسباب التي تسبب الثبات على الدين، تعلم العلم النافع، وتعلم العقيدة الصحيحة، ثم الاطلاع على أحاديث الفتن، وما يجري في آخر الزمان، وما يجب على الإنسان عندها، ثم الابتعاد عن الفتن وأهل الفتن والحذر من المروجين لها والدعاة إليها، دعاة على أبواب جهنم كما وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم - من أطاعهم قذفُوه فيها ثم الدعاء وهذا أهم شيء، الدعاء، دعاء الله -عز وجل- أن يثبت المسلم، ويكثر من الدعاء بالثبات، ويجالس أهل العلم، والبصيرة، وأهل الخير، كذلك لا يستمع للقنوات التي تدعو إلى الفتن، ويلقي فيها أهل الشر شبهاتهم، فإذا عمل الإنسان بهذه الأمور، فإن الله -جل وعلا- يعصمه من الفتن.

الثبات على الكتاب والسنة

         قال الشيخ عبدالكريم الخضير: الثبات على منهج السلف هو لزوم الكتاب والسنة والاعتصام بهما، وإدامة النظر في كلام الله -جل وعلا- والإفادة منه، مع تدبره وقراءته على الوجه المأمور به، ثم النظر في سنته - صلى الله عليه وسلم -، والنظر في سير الأئمة من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم على طريقة أهل العلم وسمْتهم، وعدم النظر في كتب أهل البدع والنظر إلى المبتدعة سواء كانوا في العصور الأولى أو في العصور المتأخرة، فمن أراد أن يستنَّ فليستنَّ بنبيه - صلى الله عليه وسلم -، ويديم النظر في كلامه، وفي سيرته، وفي سيرة أصحابه -رضي الله عنهم-، وفيمن يُعتد به من أهل العلم، ويقرأ في كتب تراجم الأئمة، وفيها رسم للمنهج الصحيح المتلقَّى من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم .  

الهواري: الاستقامة على الكتاب والسنة عقيدةً وشريعةً  هي سبيل النجاة في الدنيا والآخرة

 
  • الذين يتمردون على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم إنما يتمردون على الغاية التي خُلقنا من أجلها
  • الهجوم على المتمسكين بالكتاب والسنة عاجزون عن مواجهة الحق بالحجة والبيان فيلجؤون للتشهير والتشويه ونشر الشائعات وتنفير الناس عن أصحاب هذا المنهج

        لا يشك عاقل في أن الموقف الصحيح من الحق هو الإيمان به، واتباعه، وقبوله، والتسليم به، والانقياد له، والتمسك به، والدعوة إليه، ونصرته، والدفاع عنه، والثبات عليه، وبالرغم من ذلك انقسم الناس في موقفهم من الحق -كما قال الله تعالى-: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (الأعراف: 30)؛ لذلك كان لزامًا علينا معرفة الصوارف التي تصرف الناس عن الحق وتصدهم عنه. وبسؤال عضو مجلس إدارة الدعوة السلفية في مصر (الشيخ شريف الهواري) عن ذلك قال: لا شك أن الشياطين لها دور، ولها عمل، ولها همة عالية في أن تجتال الناس عن الحق، قال رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَومٍ في خُطْبَتِهِ-: «... وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ»، أي عملت على غوايتهم وإضلالهم من خلال وسائل عدة تدخل بها إليهم، ولا شك أن الشيطان حينما أخبر أن يأتي عن اليمين وعن الشمال، ويأتي من الأمام ويأتي من الخلف، والفقيه في الشر يُزيّن ويُمنّي ويُشهّي ويوسوس ويؤسس طرق الضلال والانحراف، هذا كله من أجل صرف الناس عن الحق حتى ينشغلوا عنه بشهوات أو بأهواء أو بعادات أو بأعراف أو بتقاليد أو بتناحر على الدنيا والمال والوجاهة وهكذا. والمؤسف حقًا أن شياطين الإنس الذين وقعوا في شراك شيطان الجن، وأصبح هو المُخطط والمُدبر لهم، -مع الأسف- هم من يعملون على صرف الناس عن الحق، فهم يزينون مناهج الشر، ويدعون الناس إليها، وهذا كله كذب وزور، وما يزدادون بذلك إلا بعدًا وسقوطًا في الضلال والانحراف والضيق والكرب والشدة؛ لذلك هذا من أهم المعاني التي ينبغي أن يحْذرها الناس. لذلك المولى -عز وجل- لما خلقنا وسخر لنا في كونه، وأسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة، وأكرمنا بالمنهج الصحيح، وبيّن لنا طبيعة الطريق وحقيقة الصراع، حذّرنا أنّ الشيطان سيكون لنا عدوًا: قال -تعالى-: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}؛ لذلك علينا الأخذ بأسباب الحيطة والحذر، والتحصن ضد هذا العدو اللدود بالعلم النافع والإخلاص وبالذكر وبالتوكل على الله -عز وجل-، والأخذ بأسباب الوحدة والاجتماع؛ لأن الشيطان مع الواحد ومن الاثنين أبعد، وحتى نكون على الطريق المستقيم الموَصِّل لمرضات الله والجنة.

الاستقامة سبيل النجاة

         وأضاف: إن الله -عز وجل- بيّن للناس صراطه المستقيم؛ فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}، وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: خطَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خطًّا بيدِه ثم قال: هذا سبيلُ اللهِ مستقيمًا، وخطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، ثم قال: هذه السبلُ ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ}؛ لذلك أمرنا الله -تعالى- فقال: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير}، والأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة أمر لنا بالتبعية، فالاستقامة على دين الله -عز وجل- ومنهج السلف عقيدة وشريعة، أقوالا وأفعالا، كتابًا وسُنَّة، هذه الاستقامة -إن شاء الله تبارك وتعالى- هي سبيل النجاة من هذه الطرق المعوجة، كما قال الصّدّيق - رضي الله عنه - لما سُئل عن الاستقامة- قال: هي ألاّ تستقي الحق إلا من الله -عز وجل- وما أمر به، وهذا معنى راق جدا، لذلك الصّدّيق لمَّا ذكر هذا المعنى إنما أراد التوحيد بمنهج التلقي والتمسك به على نحو صحيح، فالاستقامة هي ألا تلتفت لغير الله، وألا تأخذ إلا من منهج الله الذي زكاه وارتضاه -سبحانه وتعالى.

ليس رجعية ولا تخلفا

          أما الذين يزعمون أن التمسك بالكتاب والسنة رجعية وتخلف، فهذا هو عين الرجعية وعين التخلف، أن يقدموا الشهوات والأهواء على منهج الحق الذي هو من لدن حكيم خبير -جل وعلا- الذي قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، الله -سبحانه وتعالى- يعلم ما يصلحهم وما يسوسهم وما يصل بهم إلى مرضاته والجنة؛ لذلك كان منهج الكتاب والسُنَّة بفهم الصحابة -رضوان الله عليهم- هو أسلم المناهج وأضبطها؛ ولذلك من يقول رجعية هذا يرد دعوة المولى -عز وجل-، {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}؛ ولذلك القرآن الكريم دعانا للتمسك بهذا المنهج العظيم على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال -تعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، أليست هذه تزكية لفهم النبي - صلى الله عليه وسلم ؟! {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، ثم حذّر من مغبة مخالفته {لْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}؛ لذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهؤلاء: «من رغب عن سنتي فليس مني»، «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فهؤلاء الذين يتمردون على متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يتمردون على الغاية التي خلقنا من أجلها المولى -عز وجل- وهي إقامة العبودية على نحو يرضي الله -تبارك وتعالى-، وعلى هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذلك من يقولون: إنَّ هذه رجعية فهؤلاء يتكلمون بلسان الشيطان والعياذ بالله -تعالى-؛ لأن هذا كلام باطل وبهتان وزور، هذا منهج الحق، منهج الله -عز وجل.

الحق أبلج والباطل لجلج

         التمسك بالكتاب والسنة هو منهج الحق، وهذه سُنَّة من السنن التي لا تتبدل ولا تتغير؛ امتحانا واختبارا وابتلاء لحملة هذا المنهج، أن يعارضه أمثال هؤلاء ويدعون لطمس معالمه وتأخيره، حتى لا يكون له سلطان ولا قدسية ولا وجود، إنهم يعلمون أن هذا هو المنهج الحق وأنه أبلج، والباطل لجلج؛ ولذلك هم يخشون من وجود هذا المنهج، ويصفونه بالصفات القبيحة لتنفير الناس عنه، بل العجيب أنهم يخرجون مناهج منحرفة ويلصقونها به زورا وبهتانا، فتارة تجد الخوارج الجدد على وجه التحديد يدعون الانتساب إلى السلفية، وكذلك الجماعات التكفيرية، والجماعات الصدامية، يحاولون أن يقنعوا الناس بأن هذا هو المنهج السلفي، لا والله، المنهج السلفي بريء من هذه المنازل المنحرفة عن الكتاب والسُنَّة وعن فهم السلف الصالح وتطبيقاته الصحيحة. وهم يجتهدون لتنفير الناس من المنهج الصحيح والمنضبط؛ لأنه المنهج الوحيد الذي يستطيع بيان عوارهم وبيان فسادهم وبيان ما هم عليه من ضلال، وأن ما هم عليه ليس من الدين في شيء، وذلك بالحجة والبيان؛ ولذلك كلهم يخشون من هذا المنهج الذي يسمونه بالأصولي المتشدد، نحن نتمسك بهذا المنهج، ونحن على يقين أنه الأسلم لنا، والذي سننجو به وحده بإذن الله -تبارك وتعالى.

الهجوم على حملة المنهج

         أما الهجوم على المتمسكين بالكتاب والسنة فهذا طبيعي؛ حتى لا تخرج النماذج المؤثرة التي تدعو الناس وتؤثر في واقعهم، ولا سيما إذا أتيحت لها الفرصة للانتشار في أوساط المجتمع، وهذا أمر فطري؛ لعجز الباطل عن مواجهة الحجة بالحجة، والبيان بالبيان؛ فيلجـؤون للتشهير والتشويه وإشاعة الشائعات وتنفير الناس عنك حتى لا يتأثر الناس بدعوتك؛ فيدخلوا في دين الله -تبارك وتعالى.

نصيحة للشباب

         وفي رسالة وجهها الشيخ الهواري للشباب قال: نصيحتي للشباب في ظل هذه الفتن وخصوصًا فتن الشهوات والشبهات، أولا أن يَصْدُقوا في اللجوء إلى الله -تعالى-، وأن يلزموا غرز العلماء الربانيين ليتعلموا منهم؛ فالعلم من أعظم أسباب النجاة عند الفتن؛ فعلى الشباب الاعتناء ببناء أنفسهم علميا وفكريا، مع الاهتمام بترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوسهم، وتفعيلها في واقع حياتهم، لتكون زادًا لهم وقوة تؤدي إلى الثبات والاستمرارية وعدم الالتفات للباطل وطرائقه، وما يقوم به من تيسير سبل الضلال والانحراف.

صحبة الأخيار

              ثم على الشباب الحرص على صحبة الأخيار من الشباب الصالحين الذين تمسكوا بالمنهج الصحيح، ليكونوا دليلاً لهم على الخير ويعينوهم عليه، ويكونوا لهم عونا في السير إلى الله -تبارك وتعالى-، وعليهم بالدعاء والتضرع في هذه الفتن الشديدة؛ فرسول الله - صلى الله عليه وسلم-  وهو من هو- كان يتعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وكان يتعوذ بالله -عز وجل- مما علم منها ومما لم يعلم، ويتعوذ من فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال، وكان يتعوذ من فتنة الغنى وفتنة الفقر وفتنة النساء، فاستعينوا بالله واصبروا.    

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك